هل تعلم من هو الدكتور علي باشا إبراهيم
الدكتور علي باشا إبراهيم
وُلد علي باشا إبراهيم في 10 أكتوبر سنة 1880، في مدينة الإسكندرية. ووالده إبراهيم عطا من مواليد قرية "مطوبس" بمحافظة الغربية (كفر الشيخ حاليًا)، كان يعمل فلاحًا في قرية "منية المرشد". ووالدته هي الحاجة مبروكة خفاجي من مواليد قرية "مطوبس" أيضًا. تزوج الوالدان ولكن الله لم يقدر لهذا الزواج أن يستمر طويلاً فسرعان ما تم الطلاق، وذهبت الأم إلى الإسكندرية حيث وضعت طفلها الصغير الذي أسمته "عليا".
كفاح الأم
حرصت والدة علي باشا إبراهيم على تعليمه، وكانت قد تكفلت بتربيته. واضطرها ذلك إلى أن تعمل قابلة كي تكسب بعض المال لتقيم أودها وأود ولدها.
في يوليه سنة 1882 عندما ضرب الأسطول البريطاني مدينة الإسكندرية وهربت الوالدة مع طفلها علي إبراهيم إلى المزارع خارج الإسكندرية وعاشا في العراء عدة أيام، والغريب أنه مع صغر سنه في ذلك الوقت إلا أنه ظل دائمًا يذكر منظر الحرائق التي اندلعت في حيه والتي تركت انطباعًا عنيفًا وعميقًا في نفسه. ولعل هذا كان السبب الذي دعاه فيما بعد إلى تبني مبدأ عدم تدخل الأجانب في إدارة شئون البلاد وكان منشأ وطنيته العارمة.
ما كاد علي إبراهيم يصل إلى الثامنة من عمره حتى أدخلته والدته مدرسة رأس التين الابتدائية، وكانت توفر له مصاريف الدراسة بصعوبة بالغة وكذلك الكتب، وما يكفي من القوت. ولقد كانت والدته تسبق تفكير عصرها، حيث رأت وهي السيدة الأمية أن المستقبل للعلم والمتعلمين. وقد كان علي إبراهيم يساعدها على ذلك حيث كان دائمًا موضع إعجاب مدرسية وأساتذته وذلك لتفوقه وحسن خلقه.
وقد حصل في هذه السن المبكرة على العديد من الجوائز التقديرية والتشجيعية التي كانت وسام شرف يحمله الطالب الصغير، ومن بين هذه الجوائز مجموعة من الكتب والقصص الروائية الإنجليزية الشائقة
رحلة كفاح في التعليم
في عام 1892 حصل علي إبراهيم على الشهادة الابتدائية، وكان ترتيبه الأول بين زملائه. وقد كانت الشهادة الابتدائية في ذلك الوقت تعادل الشهادة الجامعية من حيث الوجاهة الاجتماعية وفرصة الحصول على وظيفة محترمة. وما إن علم الأب بنبأ نجاح ابنه، حتى طلب ضمه إليه. فراوغت الأم كثيرًا حتى لا يبتعد فلذة كبدها عنها.
ولكن.. في ليلة من الليالي ذهب الأب إلى منزل الأم في الإسكندرية برفقة جماعة من الأصدقاء، بغرض أخذ علي للعمل معه. فما كادت الأم تعلم بهذا حتى تنبه عقلها إلى فكرة هروب علي إلى القاهرة لاستكمال تعليمه هناك. فبادرت بإعطائه ما تملك من المال وأعطته عنوان عائلة السمالوطي بالقاهرة، وجعلته يقفز إلى سطح الجيران وودعته حتى يتمكن من استكمال مشواره التعليمي. حيث كان لأسرة السمالوطي بعض من يقطنون في الإسكندرية ويعرفون والدته. وبالفعل ما بزغ فجر اليوم الجديد حتى استقل علي أول قطار متجه إلى مدينة القاهرة لاستكمال طريق الكفاح من أجل العلم.
وفي القاهرة بمساعدة أسرة السمالوطي التحق علي إبراهيم بالقسم الداخلي في مدرسة الخديوية بدرب الجماميز، ليكمل دراسته الثانوية فأظهر نبوغًا في الدراسة كعادته. وقد نال شهادة البكالوريا بتفوق في 26 سبتمبر عام 1897.
الالتحاق بمدرسة الطب
في أثناء مرحلة الدراسة الثانوية، اتجهت ميول علي إبراهيم إلى العلوم الرياضية والتاريخ الطبيعي والكيمياء. فما لبث أن حصل على الشهادة الثانوية حتى التحق بمدرسة الطب بالقصر العيني.
التحق علي إبراهيم بمدرسة الطب بالقصر العيني في عام 1897 وتخرج منها في سنة 1901، وكانت مدة الدراسة في هذه الفترة أربع سنوات بعد أن كانت ست سنوات. وعندما دخل مدرسة الطب أراد أن يرد لوالدته بعضًا من هذا الجميل، وكان الطالب في مدرسة الطب حينئذ يتقاضى ثلاثة جنيهات شهريًا للتشجيع على الدراسة والاستمرار في طلب العلم. فكان علي إبراهيم يرسلها كاملة إلى والدته، وكان يتكسب من قراءة القرآن على المقابر أيام الجمع.
أثناء دراسة علي إبراهيم بمدرسة الطب سنة 1897، كان عدد الطلاب بالفرقة الأولى وقتها اثني عشر طالبًا كان هو من بينهم، وكانت المصرفات قد ألغيت عام 1896 لتشجيع طلبة البكالوريا على الالتحاق بمدرسة الطب، ولكن على الرغم من ذلك لم يكن الحال جيدًا في المدرسة. فقد كان مجموع الطلاب في بقية الفرق الخمسة للمدرسة خمسة عشر طالبًا.
تطلبت هذه الظروف التي تمر بها مدرسة الطب من عدم إقبال طلاب البكالوريا على الالتحاق بها؛ وضع سياسة جديدة للتعليم الطبي. فاستدعت السلطات الدكتور بري من مستشفى جاي Guy’s Hospital بلندن للحضور إلى القاهرة وإعداد تقرير عن حالة المدرسة ومقترحاته للإصلاح، فأعد تقريرًا ورد في مقدمته ضرورة أن تكون المدرسة والمستشفى تابعتين لمدير طبي واحد (كان المتبع هو وجود مديرين أحدهما للمستشفى والآخر للمدرسة)، تعاونه لجنة للمدرسة وأخرى للمستشفى من هيئة التدريس. وأكد على ضرورة التكامل في التدريس العلمي والتعليم الإكلينيكي بالمدرسة والمستشفى.
وبناءً على هذا التقرير عين الدكتور كيتنج أول مدير للمدرسة والمستشفى معًا، مما قلل من دور المستر ملتون كمدير للمستشفى، الذي ما لبث أن استقال في عام 1898. واشتمل تقرير الدكتور بري على العديد من المقترحات التي تم الأخذ بها، ومن بينها أن يكون التعليم باللغة الإنجليزية دون غيرها، وأن تخفض عدد سنوات الدراسة من ست إلى أربع سنوات مما ألغى تقريبًا تدريس علم البيولوجيا، كما تضمن التقرير مراجعة لهيئة التدريس وأوضاعها وتحويل العديد من وظائف نصف الوقت إلى كل الوقت، ومراجعة كاملة لمقررات الدراسة بمدارس الطب والصيدلة والتوليد.
أظهر علي إبراهيم نبوغًا فائقًا في مدرسة الطب كعادته دائمًا، فاهتم بالاستزادة من العلم، ولم يكتف بالمناهج المقررة فقط، بل كان يطلع على المجلات العلمية المتنوعة وأخذ ينافس أساتذته في علومهم ومعارفهم في المجال الطبي. حيث كان يدرك أن التعليم الصحيح هو التعليم القائم على البحث العلمي والقراءة الواسعة، لا على الحفظ والتلقين.
إلا أن الدراسة الأكاديمية في أول سنة بمدرسة الطب، لم تعجبه بالمرة، وكان يرى أن هذا يسبب نقصًا في عمله كطبيب، وكان يروي القصص العجيبة عن الفوضى في السنة الأولى والثانية في مدرسة الطب. فهو يروي أنه عندما كان يدرس التشريح، كان أستاذه الدكتور محمد صدقي يدرس المادة باللغة العربية، بينما كانت كتب التشريح كلها بالإنجليزية. وبعد فترة عين الدكتور صدقي محافظًا للقاهرة وأصبح الممتحن الخارجي للتشريح. وفي الامتحان الشفوي حينما جلس علي إبراهيم أمامه أعطاه جمجمة وقال له اشرح ما ترى في قاع هذه الجمجمة وما فيها من ثقوب والأعصاب التي تمر فيها. فقال له علي إبراهيم إني قرأت هذا الجزء باللغة الإنجليزية في كتاب جراي، ولا أستطيع أن أقوله باللغة العربية. فغضب الدكتور صدقي غضبًا شديدًا. ولكن علي إبراهيم أخذ يشرح باللغة الإنجليزية ونجح نجاحًا باهرًا في هذا الامتحان.
وليس أدل على نبوغه وتفوقه أكثر من عمله مساعدًا لأستاذه الدكتور سيمرس، أستاذ علمي الأمراض والميكروبات. وقد قضى علي إبراهيم عامين كاملين في هذا العمل، عامًا منهما وهو طالب بالسنة النهائية بمدرسة الطب، والآخر بعد أن حصل على دبلوم الطب في 15 أكتوبر سنة 1901.
أساتذة علي إبراهيم
تتلمذ علي إبراهيم على يد مجموعة من كبار أساتذة الطب المصري في ذلك الوقت حيث كان الدكتور كيتنج أستاذ التشريح ومديرًا للمدرسة (ظل مديرًا للمدرسة من 1898 وحتى سنة 1919)، وكان الأستاذ ويلسون أستاذًا للفسيولوجيا، وسيمرز للباثولوجيا، وشيمدت للكيمياء، والدكتور محمد الدري، والدكتور عثمان غالب للتاريخ الطبيعي.
علي إبراهيم والدكتور عثمان غالب
كانت هناك صلة قوية تربط بين علي إبراهيم الطالب بمدرسة الطب وبين أستاذه الدكتور عثمان بك غالب. فكان يحمل كتبه إلى داره بعد المحاضرة ويقضي معه ساعات طويلة في حوار علمي شائق، تعلم منه طريقة التفكير العلمي الصحيح.
وللدكتور عثمان غالب باع طويل في مجال الدراسات الطبية، فقد كان متخصصًا في التاريخ الطبيعي، وله أبحاث قيمة في علم الديدان وله كتاب "علم الحيوانات اللافقارية". وأتقن علم النبات وألف فيه كتاب "مختصر تركيب أعضاء النبات ووظائفها".
التخرج في مدرسة الطب
أتم علي إبراهيم دراسته بمدرسة الطب سنة1901، وحصل بموجب ذلك على "إجازة طبيب وجراح ومولد للسيد علي أفندي إبراهيم، حيث أتم الدراسة المقررة لمدرسة الطب في سنة 1901 ليكون له حق التمتع بما تخوله له القوانين والأوامر المتبعة". وكان ترتيبه الأول بين زملائه، ويفوق مجموع درجاته درجات الثاني بفارق ثمانين درجة.
وفي 21 أكتوبر 1901 صدر تصريح من نظارة الداخلية، مصلحة الصحة العمومية بشأن مزاولة علي أفندي إبراهيم لمهنة الطب في القطر المصري، وتم إدراج اسمه بدفاتر الأطباء المعلومين تحت رقم 64.
العيادة الأولى
استطاع علي إبراهيم أن يوفر مبلغ مائة جنيهًا اقتصدها أثناء عمله في مصلحة الصحة بقسم الأوبئة، فاتفق مع صديقة الدكتور عبد المجيد محمود أن يفتحا عيادة كانت بجوار جامع قجماس الإسحاقي(أبي حريبة)، وبالفعل تم لهم ذلك وافتتحا العيادة.
ولكن... أتت الريح بما لا تشتهى السفن حيث وجد علي أن العمل كان صعبًا جدًا فقد كان الإقبال كله على الأطباء الأجانب وكانت لهم الزعامة الطبية في مصر وكان الطبيب المصري غريبًا في وطنه.
العمل بمصلحة الصحة
عمل علي إبراهيم بمصلحة الصحة (وزارة الصحة حاليًا)، بقسم الأوبئة، وفيها ظهر نبوغه وعبقريته المعتادة في تشخيص بعض الأمراض التي أصابت الريف المصري وحار فيها الأطباء ومنها:
تشخيص وباء الكوليرا الآسيوية
لم تطل إقامة علي أفندي إبراهيم في القاهرة طويلاً، حيث ظهر وباء غريب في قرية بوشا (بالقرب من أسيوط) عام 1902، كان من أعراضه الإسهال الشديد الذي يؤدي إلى الوفاة في أحوال كثيرة. واحتار فيه الأطباء في ذلك الوقت. فانتدب الدكتور علي إبراهيم للبحث عن سببه، وهنا ظهر تميزه وتفكيره العلمي الصحيح. حيث استنتج أن سبب الوباء هو الكوليرا الآسيوية. وأخذ يبحث عن مصدره، فوجد أن أحد الحجاج أتى بماء من السعودية يتبرك به، ولم تكن الأحوال الصحية في السعودية كما هي الآن، وشرب منه الأهالي وسرعان ما انتشر الوباء بين الناس. وأرسل بعينة من قيء المرضى للتحليل في القاهرة، وجاءت نتيجة التحليل سلبية. فلم ييأس ولم يتخل عن تشخيصه، فأعاد إرسال عينة أخرى للتحليل مرة ثانية. وجاءت نتيجة التحليل مؤكدة صحة تشخيص علي إبراهيم للمرض، وهو وباء الكوليرا الآسيوية.
وساعدت صحة التشخيص في حصر الوباء في أضيق الحدود. وكانت تلك خطوة أولى على طريق النجاح.
تشخيص وباء الجمرة الخبيثة
انتُدب علي أفندي إبراهيم مرة ثانية للريف لفحص وباء غريب يصيب السيدات عادة ويؤدي إلى الوفاة في كثير من الحالات. وقد استطاع علي إبراهيم في وقت قصير أن يشخص المرض بأنه وباء الجمرة الخبيثة، وأن السبب في إصابة السيدات أكثر من الرجال هو كثرة تعاملهن مع روث الحيوانات في صنع الوقود. حيث تكمن الجرثومة المسببة للمرض في روث الحيوانات. فاستطاع أن يحصر الوباء مرة ثانية في حدود ضيقة بفضل التشخيص المبكر للمرض.
أول منصب إداري (مدير مستشفى بني سويف)
نظرًا للمهارة الشديدة والنبوغ الذي أظهره علي إبراهيم في مجال مكافحة الأوبئة في الريف المصري، كوفئ بتعيينه حكمباشي (مديرًا) بمستشفى بني سويف.
أولى العمليات الجراحية
استئصال الكلى
كانت أولى العمليات الجراحية التي أجراها الدكتور علي إبراهيم هي عملية استئصال كلية. وتعتبر هذه العملية من العمليات الكبرى التي لا يقدم عليها الجراح إلا بعد أن يكون قد ساعد في عدد منها ثم قام بإجرائها تحت إشراف أستاذه حتى يتمكن من الاعتماد على نفسه. ولكن علي إبراهيم أقدم على هذه العملية دون سابق خبرة أو تجربة وفي ظل ظروف غير مواتية بالمرة من حيث عدم وجود لنقل الدم أو حقن الجلوكوز أو المضادات الحيوية. ولم يكن ذلك اندفاعًا منه أو غرورًا، بل كان ثقة في توفيق الله سبحانه وتعالى له أولاً، وفي قدرته على إتمام العملية بنجاح ثانيًا. فهو يرى أن نجاح العملية هو شفاء المريض، وأنه لا فائدة من نجاح عملية إذا توفى المريض. وبالفعل فقد نجحت العملية نجاحًا تامًا. ويذكر علي إبراهيم أن طبيب التخدير في هذه العملية هو الدكتور مصطفى فهمي الذي أصبح فيما بعد وكيلاً لمستشفى القصر العيني.
تفتيت حصوة في المثانة
من أبرز العمليات التي أجراها علي إبراهيم أيضًا في بداية حياته، عملية تفتيت حصوة في المثانة دون إجراء جراحة كبيرة. فقد كان المتبع في ذلك الوقت هو شق العجان لاستخراج الحصوة، وهي عملية كانت تستدعي البقاء أيامًا طويلة في المستشفى مع وجود احتمالات عالية في الوفاة.
تبدأ قصة هذه العملية عندما ذهب إليه أحد عُمد القرى بابنه في مستشفى بني سويف ليجري له عملية تفتيت الحصوة. وبعد أن وقع علي إبراهيم الكشف الطبي على المريض قرر عمل العملية في الصباح وأن المريض سيغادر المستشفى في المساء. فدهش الأب عندما سمع هذا الكلام من علي إبراهيم. وبالفعل تم تفتيت الحصوة بنجاح، حيث كان علي إبراهيم يستطيع بواسطة المجس (آلة طبية) أن يعرف حجم الحصوة وصلابتها وعدد الحصوات الموجودة بالمثانة. ومن هنا انطلقت شهرة علي إبراهيم تدوي في أنحاء بني سويف.
طبيب بمستشفى أسوان
نُقل علي إبراهيم من بني سويف إلى مستشفى أسوان عام 1904، ولم يمكث فيها فترة طويلة حتى نقل إلى مستشفى أسيوط الأميري. وكان سبب نقل علي إبراهيم من مستشفى بني سويف إلى مستشفى أسوان هو منعه مرور الأغذية التي تورد لمطبخ المستشفى من نفس ممر حجرة العمليات. لأن هذا غير صحي، حيث تأتى الأغذية من الحقول محملة بالطين والوسخ وتمر من ممر حجرة العمليات مما يؤدي إلى تلوث الجروح. فتعارض هذا الأمر مع رأى المفتش الإنجليزي الذي أصر على مرور الأغذية من ممر حجرة العمليات بدلاً من الفناء منعًا لسرقتها. فلم يقبل علي إبراهيم هذا الوضع واحتج عليه. الأمر الذي أدى إلى نقله إلى مستشفى أسوان.
مدير مستشفى أسيوط الأميري
عُين الطبيب علي إبراهيم حكمباشي (مديرًا) بمستشفى أسيوط الأميري عام 1904. وهنا انطلقت جهود علي إبراهيم نحو تمصير الطب المصري، ففي الوقت الذي استحوذ فيه الأطباء الأجانب على ثقة المرضى المصريين. أخذ علي إبراهيم الطبيب الشاب يشق طريقه، وينحت في الصخر مكانته بين الأطباء الأجانب. فقد كان من النادر أن يذهب مريض إلى طبيب مصري، لاعتقادهم بتفوق الطبيب الأجنبي. وكانت أسيوط مثلها مثل القاهرة في ذلك الوقت قلعةً للأطباء الأجانب كما كان علي إبراهيم يعبر عن ذلك دائمًا.
ولعب القدر دوره في معرفة الناس بعلي إبراهيم كطبيب بارع؛ فقد حلّ فصل الصيف ورحل الأجانب في أجازتهم السنوية كلٌ إلى موطنه. فلم يجد المرضى مفرًا من اللجوء إلى الطبيب المصري علي إبراهيم، وعلى الرغم من الشهرة الواسعة التي حققها علي إبراهيم في بني سويف لاسيما بعد عمليتي استئصال الكلى، وتفتيت حصوة المثانة دون جراحة بالغة، إلا أن هذا لم يجد شيئًا في أسيوط في أول الأمر. فكانت تمر عليه الشهور وإيراد عيادته لم يتجاوز قروشًا معدودة.
ولذلك كان المرضى يلجأون إليه في فصل الصيف لأخذ رأيه في العمليات الجراحية، لا لعملها وإنما مجرد استشارة طبية. أي أنه عمل لفترة من الوقت كطبيب استشاري ليس أكثر. فكان علي إبراهيم صبورًا يشير عليهم بالصواب والواجب عمله.
عندما عاد الأطباء الأجانب من أجازتهم وأقروا ما أشار به علي إبراهيم من رأي زادت ثقة المصريين به. وبدأت تنتشر أخبار العمليات الضخمة التي كان يجريها في مستشفى أسيوط الأميري. من عمليات استئصال للطحال أو الكبد أو جزء من الأمعاء، وتفتيت للحصوات، وغير ذلك من العمليات الكبرى التي كانت تتم بنجاح باهر بفضل وتوفيق من الله منّ به على الطبيب الشاب علي إبراهيم. فزادت شهرته وأصبح ينعت بعلي إبراهيم الأسيوطي.
في أسيوط عني علي إبراهيم بالتمريض عناية خاصة فهو أول من أدخل الممرضات في المستشفيات المصرية. حيث قام بالاتفاق مع أحد الأديرة على إرسال راهبات للتمريض بالمستشفى الأميري في أسيوط. واتفق معهن على مكافأة شهرية ولما كتب لمصلحة الصحة بشأن هذه المكافأة عارضوه بشدة. إلا أنه لم يتنازل عن مبدأه فأرسل خطابًا أكد فيه استعداده التام لدفع المكافأة من ماله الخاص في حالة رفض المصلحة. فما كان من مصلحة الصحة إلا أن رضخت لطلبه ووافقت على صرف مكافآت نظير التمريض.
وهكذا كانت مدينة أسيوط مشوارًا من الكفاح في جذب ثقة المرضى نحو الطبيب المصري. وتدعيم أواصر التعاون بين الطب والتمريض من أجل مصلحة المريض.
العودة إلى القاهرة
شغرت وظيفة مساعد الطبيب الشرعي بمستشفى قصر العيني، فقام عبد الخالق ثروت بتوجيه خطاب إلى علي إبراهيم في أسيوط بشأن ترشيحه لشغل هذه الوظيفة في 19 إبريل 1909. وهنا ظهرت رغبة علي إبراهيم في الاستزادة من العلم والاستمرار في تقوية أواصر الثقة بين المرضى والطبيب المصري فأراد أن يفعل في القاهرة ما فعله في أسيوط. فضحى بالدخل الكبير الذي كانت تجلبه له عيادته وقد وصل في بعض الأحيان إلى أربعمائة جنيهًا شهريًا، وهو في ذلك الوقت كان يعد ثروة طائلة. وفضل العودة إلى القاهرة لإثبات مكانته بين الأطباء الأجانب وقت أن كانت القاهرة قلعة خالصة لهم.
بالفعل عاد علي إبراهيم إلى القاهرة وشغل وظيفة مساعد الطبيب الشرعي في الفترة من (1909إلى 1924) حيث تدرج في منصبه إلى أن أصبح أستاذ الجراحة في القصر العيني.
في بداية عمله في مستشفى القصر العيني واجهته كثير من المصاعب والمحن، فقد اتخذ لنفسه عيادة في شارع الصنافيري، ولم يكن دخله من هذه العيادة حسنًا في بادئ الأمر وعانى كثيرًا من قلة الموارد المالية واستمر الحال هكذا حتى عام 1912 إلى أن بدأت الظروف في التحسن رويدًا رويدًا. وبدأ يحقق كثيرًا من النجاحات في مجال الجراحة وذاع صيته حتى أنه في أثناء تغيب مدير مستشفى قصر العيني في إجازة لمدة شهرين، انتدب علي إبراهيم للقيام بأعمال مدير المستشفى ونائبًا عنه في تلك الفترة ( من 5 يوليه 1915).
حرب البلقان
في عام 1912 نشبت حرب البلقان، وتأسست جمعية الهلال الأحمر المصرية التي قامت بإرسال بعثتين من الأطباء المصريين إلى مواقع الحرب. وكانت البعثة الأولى تحت رئاسة اللواء الدكتور سليم موصلي باشا إلى قرية سازلي بوسنة في شمال غرب الآستانة وكانت مركزًا لتجمع الجرحى والمصابين من قوات الدفاع عن شطلجة أما البعثة الثانية فقد رأسها الدكتور علي إبراهيم وتوجه بها إلى اسطنبول وأنشأ مستشفى مركزيًا هناك يجري فيه كبرى العمليات الجراحية. وقد حقق نجاحًا عظيمًا في ذلك الشأن الأمر الذي جعله يتولى إدارة ثلاث وحدات طبية من وحدات الجيش العثماني. وأن يقوم بإجراء مئات العمليات كل أسبوع في كل من هذه الوحدات. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها في سبيل إنقاذ حياة آلاف من الجرحى والمصابين. إلا أنه استطاع في تلك الفترة أن يكتسب خبرة بالغة في مجال الأمراض التي يصاب بها الجرحى ودون الكثير من ملاحظاته عن مرض غنغرينا القدم الذي كان يصيب المحاربين في الخنادق.* وتقديرًا لجهوده التي بذلها في حرب البلقان قامت الحكومة المصرية بمنحه رتبة البكوية من الدرجة الثالثة في عام 1913
لقد حرص علي إبراهيم على أن يستفيد من كل مرحلة في حياته، وكل تجربة يمر بها. فحين كان في أسيوط طبيبًا ذائع الصيت رأى ضرورة أن يضحي بكل ما حققه من مكاسب مادية ومعنوية في سيبل تحقيق هدف أسمى، وهو تمصير الطب المصري. كما حرص بشدة على اكتساب الخبرة العملية، ولم يكتف قط بالخبرة التي يحققها من خلال العمليات التي يقوم بها. بل أقدم على السفر إلى تركيا لتطبيب جرحى الحرب، ولاكتساب خبرة في دراسة الأمراض المتفشية بين الجنود في حالات الحرب. وبالفعل استطاع أن يحقق ذلك وخرج علينا ببحثٍ قيم عن غنغرينا القدم في حرب الخنادق كما سبق وذكرنا.
زواج علي إبراهيم
بعد أن أنهى علي إبراهيم مهمته في حرب البلقان، كان قد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره ولم يكن قد تزوج بعد، إلى أن قدر له أن يعالج السيدة حفيظة وهبي راغب من تقيح في أصبعها. قرر بعدها الزواج بها، وتم الزواج في صيف عام 1913. وقد كانت زوجته نعم الزوجة التي تقف إلى جوار زوجها وتحفظه في وجوده وفي غيابه. وترعى أولاده وتنشئهم نشأة طيبة، فكانوا نبتة حسنة يرويها علي إبراهيم من خلقه وحكمته وعلمه. فقد أنجب اثنين من البنين هما حسن وعلي، وفتاة واحدة أسماها ليلى. وقد أصبح ابنه حسن طبيبًا بالقصر العيني، والسيدة ليلى أستاذة للآثار والفنون الإسلامية بالجامعة الأمريكية، أما علي فهو طبيب أمراض نساء وتوليد.
عملية جراحية للسلطان حسين كامل
ازدادت شهرة علي إبراهيم عندما أصيب السلطان حسين بمرض عضال، واستدعى لعلاجه كل الأطباء الأجانب في القاهرة. فعجزوا عن علاجه، إلى أن أشار أحد الحاشية · على السلطان باستدعاء الطبيب المصري علي إبراهيم لعل الله يجعل الشفاء على يديه. فوافق السلطان حسين على استدعائه. وجاء علي إبراهيم وأجرى عملية جراحية ناجحة للسلطان حسين ُشفى على أثرها. فكافأه السلطان نظير ذلك بمبلغ ألف من الجنيهات الذهبية. ومن هنا ذاع صيت علي إبراهيم وانتشر خبر نجاحه في علاج السلطان بعد أن عجز الأطباء الأجانب عن معالجته. وبدأت ألوف المرضى يفدون إلى عيادته بشارع الصنافيري التي لم تكن مجرد عيادة للكشف الطبي بل مستشفى خاصًا بمفهومنا الآن. حيث كان المعتاد في تلك الفترة هو أن تتم العمليات إما في المستشفى الأميري أو في منزل المرضى. إلا أن علي إبراهيم سنّ سنّة حسنة وهي معالجة المرضى وأجراء العمليات الجراحية في عيادته التي جهزها بالأدوات الطبية الحديثة وبالأسرة التي تسع المرضى وبطاقم التمريض المدرب على مستوى عالٍ لخدمه المرضى وهي بذلك تعد مستشفى خاصًا وليست عيادة فقط.
لقب جراح استشاري للحضرة العلية السلطانية
في 28 يناير عام 1918 صدر مرسوم من ديوان كبير الأمناء بشأن منح علي بك إبراهيم لقب جراح استشاري للحضرة العلية السلطانية تقديرًا لمزاياه وقدراته الفائقة في فن الجراحة.
النهوض بمستوى الجراحة في مصر
استطاع علي إبراهيم بما يمتلكه من أصابع ذهبية ورباطة جأش ومقدرة على تحدي الصعاب، أن يواجه الكثير من الشدائد والتحديات التي اعترضته في سبيل النهوض بمستوى الجراحة في مصر. فقد كان شديد الإعجاب والتقدير للجراح الألماني الكبير الدكتور كوخر ويعترف بفضله عليه على الرغم من أنه لم يتتلمذ على يديه. ولكنه كان يتابع تفاصيل العمليات الجراحية التي يقوم بها الدكتور كوخر من المجلات الطبية الأجنبية. وكان ينفذها بالفعل على جثث الموتى حتى أتقنها وبدأ في تنفيذها على المرضى الأحياء. وقد واجه الفشل في بداية الأمر ولكنه كان الفشل المحفز على التفوق، حتى أصبحت هذه العمليات من أسهل ما يكون على الطبيب المصري علي إبراهيم وحقق بها نجاحًا عظيمًا. ويومًا بعد يوم أخذ صيته يدوي في سماء الطب المصري.
لم يكن علي إبراهيم يقنع بمعالجة المرض فقط، بل كان حريصًا على التوصل إلى أسباب المرض وتجنبها. ورفع شعار "الوقاية خير من العلاج". واتخذ من التفكير العلمي وسيلة للوقوف على أسباب الأمراض المختلفة، فقد حدث ذات مرة أن انتشر مرض القيلة المائية وفكر عميد الكلية في ذلك الوقت بالاستنتاج النظري لسبب هذا المرض و انتشاره في مصر وتوصل إلى أن الأسباب هي (لبس الجلباب –ركوب الحمير –الإفراط في العلاقات الجنسية). فاستنكر علي إبراهيم هذا التحليل النظري للمرض. وشرع في إجراء بحوثه العملية التي تقوم على أساس الفرض العلمي والتجربة والدليل وأخذ يحضر بنفسه في منتصف الليل لأخذ عينات من دم المرضى المصابين بحثًا عن فرض فرضه تتحقق صحته بالعثور على دودة الفلاريا، وبالفعل تمكن من التوصل إلى أسباب المرض وهو أن دودة الفلاريا كانت تحدث سدًا في الأوعية اللمفاوية مما يؤدي إلى دخول الجرثومة السبحية وحدوث التهاب بأغشية الخصية مع انسداد بالأوعية مما يؤدي إلى ظهور القيلة وكان ذلك بحثًا علميًا نشر في مجلة اللانست.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ