فالجاسوس عندما يعشق امرأة يبث فيها سمومه رويداً رويداً. . فتموت . . أو قد تنقلب مثله الى أفعى سامة. . عندئذ تكون سمومه مصلاً واقياً يقيها خطره الفتاك . . فتتوحش. . وتقوى لديها روح المغامرة. . وتقامر بحياتها لمرة واحدة فقط.
والمرأة . . عندما تعشق جاسوساً.. فإن حبها له قد يحوله – أحياناً – من ثعبان قاتل الى قط أليف لا يستخدم مخالبه. . وربما منحه الثقة ليعمل بفاعلية أكثر . . تدعوها الى مشاركته والدخول معه الى وكر الجواسيس.
فالحبيبة التي صارت حية رقطاء. . تضحي – تأكيداً لحبها – بكل ثمين في سبيل حبيبها.
وفي عالم الجاسوسية . . من باعت الوطن في سبيل الحب . . ما عزّ عليها بيع أولادها. . أو قذفهم الى وكر الثعابين..
وهذا ما فعلته انشراح بسبب الحب . . !!!
أزمة لم تطلْ
في مدينة المنيا ولدت انشراح علي موسى عام 1937 لأسرة متوسطة الحال .. وبرغم التقاليد المتزمتة في ذلك الوقت دخلت الفتاة الصعيدية المدرسة وواصلت تعليمها حتى حصلت على الشهادة الاعدادية عام 1951.
وبعد نجاحها بأيام قليلة أراد والدها مكافأتها فاصطحبها معه الى القاهرة لحضور حفل عرس أحد أقاربه.
كانت انشراح ذات وجه مليح وعينان نجلاوان .. وجسد دبت به معالم الأنوثة وخرطته خرطاً. . فبدت أكبر كثيراً من سنها.. مما لفت الأنظار اليها واخترقتها سهام الباحثين عن الجمال. . فكانت تقابل تلك النظرات بحياء فطري غلف ملامحها مما أزادها جمالاً فوق جمال.
وفي حفل العرس اصطدمت نظراتها البريئة بنظراته.. فتملكها الخجل وتوردت خدودها للسلع لذيذ أحست به يجتاح مشاعرها.. فيوقظها من رقدتها.. معلناً عن مولد مشاعر جديدة غزت عقلها وقلبها لأول مرة.
كان فتاها الذي حرك فيها دماء الأنثى هو إبراهيم سعيد شاهين ابن العريش المولود عام 1929. . الذي ما غادر الحفل إلا وعرف عنها كل شيء. وبعد أيام قلائل فوجئت به يطرق باب بيتها في المنيا برفقته والده.. طارت انشراح من السعادة وحلقت بين السحب بخيالها تستطلع مستقبلها الهنيء. . فمنذ رأته في الحفل انغرس حبه بصدرها. . وباتت ليالي تحلم به وتترقب الليل لتسرح معه طويلاً. . وتطوف مع نظراته الحانية في عوالم الأمل. . والحبور. .
وانزعجت الفتاة الصغيرة عندما اعترضت والدتها في أمر زواجها منه. . متحججة ببعد المسافة بين المنيا والعريش. . وبكت بحرقة وهي ترى أحلامها الوردية تكاد أن تحقق. . ثم سرعان ما تنهار في ذات الوقت .. دون أن تقدر على عمل شيء..
وأمام عيونها الصامتة .. سألها أبوها:
أتوافقين عليه يا ابنتي.. ؟
فكان في صمتها إجابتها..
وأعلنت الخطبة..
وفي أول حديث مع خطيبها صارحته بأنها أعجبت به مذ رأته في حفل القاهرة. . وازداد إعجابها به حينما سعى وراءها حتى المنيا ليطلب يدها.
وأكد لها الشاب الولهان أنه تمناها زوجة له منذ النظرة الأولى.. ويومها عاهد ربه ألا تضيع منه أبداً..
وفي حفل أكثر من رائع انتقلت انشراح الى بيت الزوجية في العريش. . تحفها السعادة بحبيبها الذي أيقظ فيها مشاعر دفينة لم تكن تدركها. . وأرسل الى قلبها سهام الحب فأسلمت اليه نفسها.. وتدفقت موجات متلاحقة من الحب مع كل نبضة من نبضات قلبها الصغير.
كان إبراهيم شاهين يعمل كاتب حسابات بمكتب مديرية العمل بالعريش. . وهو أيضاً لم يحصل سوى على الإعدادية مثلها. . لذلك. . اتفق وانشراح على أن يواصل أولادهما تعليمهم حتى أعلى الشهادات العلمية. . وأصبح هذا الأمل هو هدفهما الذي يسعيان اليه ويعملان على تحقيقه مهما كانت الظروف.
ومرت بهما الشهور حلوة هنيئة تحفل بالبشاشة والانسجام. . فلم يكن إبراهيم يرى في الدنيا زهرة أجمل من وجه حبيبته. . ولا يسمع صوتاً أرق من صوتها. . ولا يظل عقله بمكانه كلما انفرد بها وهي ترقص له بملابسها الشفافة.. فهي تحب الرقص ويستهويها الجنس .. وهو يعشق هذا الجسد الذي يتلوى وينثني أمامه عارياً. . وتحول الجنس عندهما كالهواء، ماتا لو لم يتعاطيانه كل يوم. . إنه يطلبه منها صراحة. . وتطلبه هي تدللاً، وبنظراتها فوران من الرغبة كالجحيم. وكانا إذا ما أظلتهما سحابة حزن فسريعاً ما تنقشع. . حتى اشتهر حبهما بين الأهل والأقارب وبدا قوياً عتياً لا يقطعه الملل أو يضعفه الكلل.
وفي أواخر عام 1955 زرقا بمولودهما الأول "نبيل". . ثم جاء المولود الثاني محمد عام 1956، ثم عادل في 1958، فعظم حبه لها لأنها ملأت عليه الدنيا بهجة. . وملأت بيته بضجيج الأبناء الثلاثة. . وهكذا سارت بهما الحياة ترفل في أهازيج الفرح وأغاريد الوئام.
وفي عام 1963 – وكما اتفقا من قبل – أرسلا بأولادهما الى عمهم بالقاهرة ليواصلوا الدراسة هناك. . وليعيشوا حياة رغدة بعيداً عن مظاهرة البداوة وظروف الحياة الأقل حظاً من العاصمة.. وفي أكتوبر 1966 ضبط إبراهيم يتلقى الرشوة وحبس ثلاثة أشهر.. خرج بعدها ليكتشف مدى قسوة الظروف التي تمر به. . والمعاناة الشديدة في السعي نحو تحقيق آماله في الارتقاء والثراء.
وذات يوم من أيام التاريخ المكفهرة – اجتاحت إسرائيل سيناء واحتلتها في يونيو 1967 . . وأغلقت فجأة أبواب السبل أمام السفر الى القاهرة. . فتأزمت انشراح نفسياً قلقاً على أولادها. . وكانت كلما نامت تراهم في المنام يستغيثون بها فتصرخ وتستيقظ. . ويحتضنها الزوج الملتاع في حنان ويهدئ من روعها. . وإن كان هو الآخر لا يقل عنها قلقاً واشتياقاً لهم.
هكذا تظل انشراح تبكي معظم الليل والنهار حتى قارب عودها على الذبول.. وأوشك جمالها أن ينطفئ.. ووجد إبراهيم أن الحياة في العريش كما لو كانت في الأسر.. فالحزن يخيم على البيت الذي ما عرف إلا الضحك والفرح.. والمعيشة أضحت في أسوأ حال.. فمنذ الغزو وهو عاطل عن العمل لا يملك المال الذي يشتري به أبسط الأشياء.. كالشاي.. والشاي عند البدوي يعد من الضروريات الأساسية في حياته. . فاستعاض عنه إبراهيم بعشب بري يعرف باسم "المرمرية" له مذاق طيب.. وأصبحت المرمرية مشروباً مستقلاً في بيته بعدما كانت وريقاتها تضاف الى الشاي كالنعناع.
وسط هذا المناخ كانت المخابرات الاسرائيلية تعمل بنشاط زائد.. وتسعى لتصيد العملاء بسبب الضغوط المعيشية الصعبة وظروف الاحتلال. . فالاحتلال الفجائي لسيناء وقع على سكانها كالصاعقة، فاختنقت نفوس الأهالي برغم اتساع مساحات الأرض والجبال. . ولكونهم ذوي تقاليد بدوية ومحبين للحركة والتجوال والتنقل، أحسوا بثقل الأمر ولم يطيقونه . . لكن الظروف التي وضعوا فيها اضطرتهم الى محاولة تحملها لثقتهم أنها أزمة لن تطول. لكن ما كان يحز في نفوسهم هو تضييق الخناق عليهم في المعيشة والتنقل.. فكانت التصاريح التي يمنحها الحاكم العسكري الإسرائيلي لا تتم بسهولة. . وأصبح السفر الى القاهرة يحتاج لمعجزة من السماء. فالتعنت في منح التصاريح بلغ منتهاه.. واشتدت عضات الغضب في الصدور.. الى جانب آلام الجوع التي تنهش الأبدان وتجتث الصبر والقوة.
الأفعى النائمة
ضاقت الحياة باتساعها على إبراهيم وانشراح في العريش.. وخلا البيت من الطعام والشراب والسرور. . وخيمت قتامة سوداوية على نفسيهما. . فازدادا يأساً وشوقاً الى الأبناء في العاصمة.. وأمام البكاء المستمر الذي تورمت له عينا انشراح. . اندفع ابراهيم الى مكتب الحاكم العسكري يطلب تصريحاً له ولزوجته بالسفر الى القاهرة.
ولما ماطلوه كثيراً بوعود كاذبة .. صرخ في وجه الضابط الاسرائيلي قائلاً إنه فقد عمله ودخله ولا يملك قوت يومه. . فطمأنه الضابط "أبو نعيم" ووعده بالنظر في أمر التصريح في أسرع وقت. . وبعد حديث طويل بينهما حاول ابراهيم خلاله التقرب اليه لإنجاز التصريح. . أمر له أبو نعيم بجوال من الدقيق وبعض أكياس الشاي والسكر. . فحملها فرحاً الى زوجته وهو يزف اليها السفر الى القاهرة عما قريب.
استبشرت انشراح خيراً وغمرتها السعادة بما جاءها به، وغاصت في أحلامها وتخيلاتها باللقاء الحميم مع فلذات أكبادها. لكن الأيام تمر وأبو نعيم يعد ولا ينفذ .. ويعود إبراهيم في كل مرة محبطاً. . لكنه كان يحمل معه دائماً أكياس المواد التموينية التي أصبحت هي المصدر الوحيد للإعاشة.. ولولاها لمات جوعاً هو وزوجته.
وذات صباح فوجئ بمن يستدعيه لمكتب أبو نعيم.. فذهب اليه في الحال وقدم له الشكر على الإعانة الدورية التي يمنحها له.. فأخبره الضابط بأن الحاكم العسكي وافق على منحه تصريح السفر هو وزوجته..
تهلل وجه ابراهيم بشراً وقبل ظهر يده شكراً لله.. فباغته أبو نعيم وقال له بأن موافقة الحاكم العسكري جاءت بشرط أن يكون متعاوناً ويأتيه بأسعار الفاكهة والخضروات في مصر.. والحالة الاقتصادية للبلد بواسطة أخيه الذي يعمل بالاستيراد والتصدير.
أجاب إبراهيم على الفور أن الشرط بسيط للغاية. . فبإمكانه القيام بهذه المسألة خير قيام. . وأضاف بأنه سيأتيهم بأسعار السلع الاستهلاكية والبقالة والسمك أيضاً.. ولو أنهم أرادوا أكثر من ذلك لفعل.
عندئذ.. وضحت الرؤية للضابط الإسرائيلي.. فقد نجح ابراهيم شاهين في الاختبار الأول.. وكان عليه أن يتصرف معه حسبما هو متبع.. ويحيله الى الضابط المختص لإكمال المهمة.. فدوره ينحصر فقط في "الفرز" لا أكثر.
وبينما ابراهيم وانشراح يحتفلان بالأمل الجديد الذي راودهما طويلاً.. توقفت سيارة جيب أمام المنزل، وطلب منه جندي أن يرافقه الى مكتب الأمن. . وهناك كان ينتظره ضابط يدعى "أبو يعقوب" بالغ في الاحتفاء به بدعوى أن أبا نعيم أوصاه به خيراً. فشكره ابراهيم وأثنى على أبو نعيم وامتد بينهما الحوار لوقت طويل. . استشف أبو يعقوب بحاسته أن ابراهيم يدرك ما يبتغيه منه.. فطلب منه أن يذهب معه الى بئر سبع .. حيث المكتب الرئيسي للأمن المختص بالتعامل مع أبناء سيناء.
وفي بئر سبع استضافوه وأكرموه بكل السبل، ولوحوا له بإغراءات ما كان يحلم بمثلها يوماً. . نظير إغراقه بالنقود وتأمين حياته وذويه في العريش وافق إبراهيم على التعاون مع الإسرائيليين في جمع المعلومات عن مصر.. وتسلم – كدفعة أولى – ألف دولار في الوقت الذي لم يكن يملك فيه ثمن علبة سجائر.
لم تكن تلك الإغراءات أو التهديدات المغلفة هي وحدها السبب الأول في سقوطه.. لكن تشريح شخصيته يعطينا مؤشراً عن استعداده الفطري للخيانة.. فلا يمكن لشخص سويّ أن يستسهل بيع نفسه ووطنه هكذا بسهولة.. لمجرد منفعة مادية مؤقتة.. فالمؤكد أن خلايا الخيانة كانت قابعة بين أنسجته منذ ولادته. . وكان يجاهد كثيراً حتى وجد لها منفذاً فأخرجها.
ففي بئر سبع تغير المشهد.. إذ تحول ابراهيم شاهين من مواطن يسعى للحصول على تصريح بالسفر الى القاهرة .. الى جاسوس لإسرائيل وعيناً لها على وطنه.
تناقض شاسع بين الحالين يدعونا للبحث في تقلبات النفس البشرية التي لا يعلم سرها إلا خالقها..
أخضع الجاسوس الجديد لدورة تدريبية مكثفة تعلم أثناءها الكتابة بالحبر السري وتظهير الرسائل.. ووسائل جمع المعلومات من الأهل والأصدقاء. . درب أيضاً على كيفية التمييز بين الطائرات والأسلحة المختلفة.. واجتاز العميل الدورة بنجاح أذهل مدربيه. . فأثنوا عليه ووعدوه بالثراء وبالمستقبل الرائع. . وبحمايته في القاهرة حتى وهو بين ذويه . . فعيونهم في كل مكان لا تكل.
دربوه أيضاً على كيفية بث الإشاعات وإطلاق النكات السياسية التي تسخر من الجيش والقيادة .. الى جانب الاحتراز وامتلاك الحس الأمني العالي، ولقنوه شكل الاستجواب الذي سيتعرض له حال وصوله القاهرة من قبل أجهزة الأمن، وكيف ستكون إجاباته التي لا تثير الشكوك من حوله.
وعندما رجع الى بيته محملاً بالهدايا لزوجته وأولاده. . دهشت انشراح وسألته عن مصدر النقود .. فهمس لها بأنه أرشد اليهود عن مخبأ فدائي مصري فكافأوه بألف دولار. . ووعدوه بمنحه التصريح خلال أيام.
بهتت الزوجة البائسة لأول وهلة .. ثم سرعان ما عانقت زوجها سعيدة بما جلبه لها .. وقالت له في امتنان:
كانوا سيمسكونه لا محالة . . إن عاجلاً أم آجلاً. .
فسألها في خبث:
ألا يعد ذلك خيانة .. ؟
فغرت فاها وارتفع حاجباها في استنكار ودهشة وأجابته:
مستحيل . . كان غيرك سيبلغ عنه ويأخذ الألف دولار. . أنت ما فعلت إلا الصح.
غمغم ابراهيم كأنه مستاء مما فعل وأضاف:
لقد عاملوني بكرم شديد. . ووعدوني بالكثير بسبب إخلاصي.. وتعهدوا بحماية أهلي وأقاربي إذا ما تعاونت معهم في القاهرة . .
صرخت انشراح في هلع:
تعاونت معهم في القاهرة .. ؟ يانهار اسود يا ابراهيم .. كيف .. ؟
وهي يغلق فمها بيده:
طلبوا مني موافاتهم بأسعار الخضر والفاكهة في مصر نظير 200 دولار لكل خطاب.
أذهلها المبلغ فسرحت بخيالها وألجمها الصمت ثم قالت له فيما يشبه الهمس:
أنا خائفة.
جذبها الى صدره واحتضنها بقوة وأخذ يردد:
أنا لا أملك عملاً الآن وليس لي مورد رزق. . وبالمعلومات التافهة التي طلبوها سآخذ الكثير وسنعيش في مأمن من الفقر. . ثم إنني لست عسكرياً حتى أخاف على نفسي. . ولأنني رجل مدني فمعلوماتي ستكون هزيلة ولن تفيدهم بشيء.
وظل الثعبان ينفث السم الزعاف في أذني زوجته حتى هدأت.. وشمل المنزل سكون لا يقطعه الا صوت ارتطام الرغبة .. وتصادم جسدان يلهثان بفعل رعشات الشوق وحرارة اللقاء.
وبعدما هدأت الأنفاس وجف العرق. . وارتمت الأعضاء تتوسل الراحة .. لامست بخدها خده . . ولفح وجهه شعرها الكث الناعم الرطب. . وأعلنت المفاجأة التي شلت تفكيره. . وتركيزه أيضاً. .
قالت له إنها لكي لا تكون قلقة خائفة . . يجب أن يطلعها على رسائله أولاً بأول. . وأن تقوم بشطب أية معلومات لا داع لإرسالها لهم.
ولما وافقها ابراهيم على الشرط النهائي لموافقتها. . نامت قريرة العين تتوسد ذراعه. . واستغرق هو في تفكير عميق .. بينما أنفاسها المنتظمة الرتيبة تشبه فحيح أفعى تتربص بفريستها.
أفضل تغطية
في 19 نوفمبر 1967 وصل ابراهيم وانشراح الى القاهرة بواسطة الصليب الأحمر الدولي .. فمنح سكناً مجانياً مؤقتاً في حي المطرية .. ثم أعيد الى وظيفته من جديد بعدما نقلت محافظة سيناء مكاتبها من العريش الى القاهرة.
وبعدما استقرت الأمور قليلاً. . انتقل ابراهيم الى حي الأميرية المزدحم .. ومن خلال المحيطين به في العمل والمسكن . .بدأ في جمع المعلومات وتصنيفها.. وكانت زوجته تساعده بتهيئة الجو الآمن لكتابة رسائله بالحبر السري.. وكثيراً ما كانت تعيد صياغة بعض الجمل بأسلوب أفضل .. وتكتب أيضاً حياتها الى الموساد على أنها شريكة في العمل. . واعتاد ابراهيم أن يختتم رسائله بعبارة:
"تحيا اسرائيل العظمى . .موسى".
ولأجل التغطية اتجه الى تجارة الملابس والأدوات الكهربائية .. وبواسطة المال والهدايا كان يتغيب كثيراً عن العمل غالبية أيام الأسبوع، ولشهور عديدة تواصلت الرسائل الى روما مزدحمة بالأخبار .. مما حدا برجال الموساد الى دعوته الى روما لاستثمار هذا الثنائي الرائع في مهام أكثر أهمية ..
وفي أغسطس 1968 وتحت ستار التجارة لا أكثر . . أبحر الثعبان والحية الى لبنان. . ومنها طارا الى روما حيث التقيا بمندوب الموساد الذي سلمهما وثيقتي سفر إسرائيليتين باسم موسى عمر ودينا عمر .. وعلى طائرة شركة العال الاسرائيلية طارا الى مطار اللد. .
كان استقبالهما في إسرائيل بالغ الحفاوة والترحيب . . إذ عوملا معاملة كبار الزوار. . وأنزلا بفيلا خيالية في تل أبيب مكثا بها ثمانية أيام .. حصلا خلالها على دورة تدريبية مكثفة في تحديد أنواع الطائرات والأسلحة .. والتصوير الفوتوجرافي.. وجمع المعلومات .. ومنح ابراهيم رتبة عقيد في الجيش الاسرائيلي باسم موسى . أما انشراح فقد منحت رتبة ملازم أول باسم دينا.
وفي مقابلة مع أحد القيادات العليا في الموساد .. أكدت إنشراح على ضرورة زيادة المكافآت لاشتراكها في العمل يداً بيد مع ابراهيم. . ووصفت له صعوبة جمع المعلومات ما لم يشتركا معاً في جمعها وتصنيفها .. وأفاضت في سرد العديد من الحيل التي تقوم بها لانتزاع المعلومات من العسكريين الذين صادقهم زوجها ويجيئون لمنزلهم.. ومن ذلك أنها تعلن بمرارة مدى كراهيتها للإسرائيليين وتنتظر يوم الانتقام منهم .. ولأنهم يتحدثون مع امرأة جميلة سرعان ما تنفك عقدة ألسنتهم . . وتخرج الأسرار منهم بسهولة . . خاصة والخمر تدغدغ الأعصاب وتذهب بالعقل.
ونظراً لأهمية المعلومات التي حصلوا عليها من خلال الجاسوس وزوجته. . فقد قرروا لهما مكافأة سخية وأغدقوا عليهما بآلاف الدولارات التي عادا بها الى القاهرة .. حيث استغلا وجودهما وسط حي شعبي فقير في عمل الصداقات مع ذوي المراكز الحساسة من سكان الحي. . وإرسال كل ما يصل اليهما من معلومات الى الموساد فوراً..
لقد برعا خلال حرب الاستنزاف – 1967 – 1970 – في التحليل والتصنيف، وتصوير المنشآت العسكرية أثناء رحلات للأسرة بالسيارة الجديدة فيات 124.
يقول الابن الأصغر عادل في حديث نشرته جريدة معاريف الإسرائيلية عام 1997:
"لن أنسى ذلك اليوم الملعون من صيف 1969 طيلة حياتي . . فقد استيقظت مبكراً على صوت همسات تنبعث من حجرة نوم والدي. . كان أبي وأمي مستغرقين في نقاش غريب. .وكانت أمي تمسك في يدها حقيبة جلدية بينما كان أبي يحاول إدخال كاميرا الى داخلها لم أر مثلها من قبل في ذلك الحين.
كانت أمي غاية في العصبية وقالت له: لا ليس كذلك. . هكذا سيرون الكاميرا. فأخرج أبي الكاميرا وأدخلها مرات ومرات الى الحقيبة.. فجلست أنظر اليهما وهما يتناقشان . . ثم قال لي أبي: نحن ذاهبون الى رحلة الى الاسكندرية.
وخلافاً لنا نحن الأولاد الذين سعدنا جداً بالقيام بهذه الرحلة . . كان الوالد والوالدة غاية في القلق. . ولم أرهما متوترين الى هذا الحد من قبل.
أخذ أبي يتصبب عرقاً كلما ابتعدنا عن القاهرة، الى أن بلل قميصه تماماً كلما ابعتدنا أكثر فأكثر من القاهرة. وكان يتبادل الكلمات مع أمي بصعوبة، وصمتنا نحن أيضاً لشعورنا أن هذه الرحلة ليست ككل رحلة.
وفي تلك الفترة كانت هناك قواعد عسكرية ومصانع حربية كثيرة متناثرة حول الطرق الرئيسية في مصر. لم تخف السلطات شيئاً. ربما كنوع من استعراض القوة. وعندما بدأنا في الاقتراب من إحدى القواعد العسكرية أخرجت أمي الكاميرا وأمرها أبي قائلاً:
"صوري . ياللا صوري . . صوري".
فقالت له وأصابعها ترتعش:
"سنذهب الى الجحيم بسببك".
وحركت أمي الجاكيت المعلق على النافذة وبدأت في التصوير، وامتلأت السيارة الصغيرة بصرخاتها الممزوجة بالخوف. فأجابها أبي بنفس اللهجة:
"هذه نهايتنا".
واستمرت أمي في احتجاجها قائلة:
"سنذهب الى السجن".
وفي النهاية نظر أبي اليها بعيون متوسلة:
"عدة صور أخرى. . فقط عدة صور أخرى".
وحاول "محمد" أن يسأل ما الذي يحدث لكن الرد الذي تلقاه كان "اسكت" فلم نسأل أية أسئلة أخرى بعد ذلك.
عدنا للبيت سعداء في ذلك اليوم. وعلى الفور أغلق أبي حجرته على نفسه وبعد فترة طويلة خرج وعانق أمي وقال لها:
"يا حبيبتي لقد قمت بالتقاط صور رائعة للغاية".
وبكت أمي وقالت له:
"الى هنا يجب أن نشرح الأمر للأولاد".
وكنا ما زلنا في صدمة وغير مدركين لهذه الجلبة التي تحدث.
وتحولت الرحلات الأسرية في أنحاء مصر الى روتين. . وكنا نخرج في نهاية كل أسبوع وكنا نسافر الى الأقصر، وأسوان، ليس هناك مكان لم نذهب اليه.. وأحياناً كان أبي يحصل على إجازة في وسط الأسبوع وكنا نسافر لعدة أيام. . وقد صورت قواعد ومنشآت عسكرية في مصر. . وكان أبي يسجل عدد الكيلو مترات في الطريق. . وبذلك يحدد موقع المصانع والقواعد العسكرية. . وكنا نحن الأولاد أفضل تغطية".
ضمان الولاء
تعددت زيارات ابراهيم وانشراح الى روما. . بعضها كان باستدعاء من الموساد.. والبعض الآخر كانت لاستثمار عشرات الآلاف من الدولارات التي حصلوا عليها من جراء عملهما في التجسس.
وفي إحدى هذه الزيارات.. قررا إشراك ولديهما لزيادة الدخل بتوسع حجم النشاط. . ولم يكن من الصعب عليهما تنفيذ ما اتفقا عليه..
يقول الابن عادل في حديثه المنشور بجريدة معاريف:
"عاد أبي وأمي ذات مساء من روما يحملان لنا الملابس الأنيقة والهدايا. . وأحسست من خلال نظراتهما لبعضيهما أن هناك أمراً ما يجري الترتيب له وعرفت الحقيقة المرة عندما أجلسني أبي قبالته أنا وأخويّ وقال في حسم:
مررنا كثيراً بظروف سيئة.. لم نكن نملك أثناءها ثمن رغيف الخبز.. أو حفنة من الملح.. والآن نعيش جميعاً في رغد من العيش. . ويسكن حوالينا أولاد في عمركم يحيون جوعى كالعبيد. . أما أنتم فتنعمون بكل شيء كالملوك. ولم تسألوني يوماً من أين جئت بكل هذا.. ؟
إن عملي في الحكومة .. وتجارتي أنا وأمكن وشقائي طوال تلك السنوات لم يكن هو سبب النعيم الذي نحن جميعاً الآن. .
والحقيقة .. أن هناك أناساً يحبوننا للغاية.. وهم هؤلاء الذين يرسلون لنا الهدايا والمال. . وبفضلهم لدينا طعام طيب وملابس جميلة.. إنهم الاسرائيليون. . وهم الذين أنقذوا حياتنا من الجوع والضياع. . وأمنوا لنا مستقبلاً مضموناً يحسدنا عليه كل من نعرفهم.
حدث ذلك في صيف 1971، وكنت وقتها في الثالثة عشر من عمري، وكان أخي نبيل يكبرني بعامين تقريباً وأخي محمد بعام واحد.
وكطفل . . لم أعر الأمر أهمية خاصة . . لحقيقة أن أبي "يعمل" مع الاسرائيليين.. ومثل كل الأولاد. . كنت قد كبرت وتربيت على كراهية اليهود. . لكن في البيت تلقيت تربية أخرى . . فقد عرفت أن الاسرائيليين هم المسؤولون عن الطعام الذي آكله. . وعن الملابس الجديدة التي أرتديها. . وعن الهدايا التي أتلقاها. . لذلك .. سعدت لأنني كنت محظوظاً.
وكلما كبرت .. بدأت أدرك معنى "عمل" أبي .. وبدأ الخوف ينخر أكثر وأكثر في عظامي. . فقد كانت كماشة من الموت تطبق علينا. . وكفتى بالغ أدركت أنهم لو ضبطونا سيتم شنقنا.. من ناحية أخرى كان الخوف من حياة الفقر يصيبني بالشلل. . فقد كنت ملكاً لديه كل شيء".
هكذا انخرطت الأسرة كلها في التجسس. . وأصرت انشراح على الانتقال من الحي الشعبي الفقير الى آخر رقياً وثراء. . وعندما عارض زوجها قالت له:
دعنا نستمتع بالحياة فربما ضبطونا.
وفي النهاية انتقلوا الى فيلا فاخرة بمدينة نصر.. ونقل نبيل ومحمد وعادل مدارسهم الى الحي الراقي الجديد.
احتفظ ابراهيم شاهين بعلاقاته القديمة وأقام أخرى جديدة. . وامتلأ البيت مرة أخرى بالأصدقاء من رجال الجيش والطيارين. . وتحول أولاده الى جواسيس صغار يتنافسون على جلب المعلومات من زملائهم أبناء الضباط في المدرسة والشارع. . ومناوبة الحراسة ريثما ينتهي أباهم من تحميض الأفلام. . فكان نبيل يتولى المراقبة من الخارج. . وعادل من داخل البيت . . وحصل نبيل على أدوار أكثر جدية.. فكان أبوه يسمح له بكتابة الرسائل بالحبر السري وتظهيرها. . وصياغة التقارير وتحميض الصور.
وذات مساء بينما هم جميعاً أمام التليفزيون . . عرض فجأة فيلم تسجيلي عن أحد الجواسيس الذي انتهى الأمر بإعدامه شنقاً.. وطوال وقت عرض الفيلم انتابتهم حالة صمت تضج بالرعب والفزع. . واستمروا على تلك الحال لأسابيع طويلة.. امتنعوا خلالها عن كتابة التقارير أو الرسائل. . حتى تضخم لديهم الخوف وأصيبوا بالصداع المستمر.. ومرض ابراهيم فاضطرت انشراح للسفر وحدها الى روما تحمل العديد من الأفلام. . خبأتها داخل مشغولات خشبية.
كانت الرحلة الى روما منفثاً ضرورياً للخروج من أزمتها النفسية السيئة.. وفي الوقت نفسه لتطلب من رجال الموساد السماح لهم بالتوقف عن العمل. . فلما التقت بأبو يعقوب ضابط الموساد الداهية. . قصت عليه معاناتهم جميعاً ومدى الخوف الذي يسيطر على أعصابهم.. فطمأنها الضابط ووعدها بعرض الأمر على الرئاسة في تل أبيب.. وصحبها الى ناد ليلي فرقصت وشربت لتنسى همومها.. وعادت معه آخر الليل ثملة لا تعي ما حولها.. وفي الصباح وجدت نفسها عارية بين أحضانه فبكت. . ومع أحضانه الدفيئة تكرر المشهد وهي بكامل وعيها.. فذاقت للجنس طعماً جديداً لا تعرفه.. ولم تتذوقه مع زوجها الذي انشغل عنها ولم يعد يهتم بها. . بعدها عادت الى القاهرة تحمل آلاف الدولارات. وكانت قبلما يفترقا في روما قد طلبت منه أن يرسل في طلبها بمفردها في المرات القادمة.
هكذا. لقد نسيت انشراح رغبتها في اعتزال الجاسوسية. . واستمرأت مذاقات اللذة الجامحة مع ضابط الموساد الذي لم يبخل عليها بفحولته المغلفة بالحنان. . وبالرغم من أن ما حدث يخالف وظيفة ضابط المخابرات ومهامه. . إلا أنه ما لجأ الى ذلك سوى لرغبته في احتوائها. . وضمان ولائها لإسرائيل.
وفي آخر سبتمبر 1973 كانت انشراح بمفردها في رحلة أخرى الى روما .. فاستقبلها أبو يعقوب المسؤول عن توجييها واستلام التقارير والأفلام منها. لذلك فقد كان عليه أن يسارع بمغادرة بئر السبع الى اللد ثم روما في كل مرة تطير فيها انشراح خارج القاهرة. وفي ذات الوقت كان الضابط الاسرائيلي مكلف بألا يتعدى أية حدود مع الجاسوسة المصرية طالما رغبت هي في ذلك. . لكن ولأن انشراح كانت من النوع الحار لم تجد غضاضة في أن تتغمس في بحور اللذة لا تريد الطفو على السطح أبداً. . حتى فاجأها أبو يعقوب بنبأ هجوم الجيش المصري والسوري على إسرائيل. . وأن احتمال القضاء على دولة اليهود أصبح وشيطاً. كان يقول لها ذلك وهو يبكي ويرتعد جسده انفعالاً.. فأخذت تواسيه وتبكي لأجله ولأجل إسرائيل. . الدولة الصغيرة التي يسعى العرب لتدميرها (!!).
وفي أبريل 1974 اقترحت إنشراح على أسرتها السفر الى تركيا للسياحة.. وبينما هم في أنقرة اتصل بهم أبو يعقوب وطلب من ابراهيم أن يسافر الى أثينا لمقابلته. ومن هناك سافر الى إسرائيل. وفي مبنى المخابرات الاسرائيلية سألوه:
كيف لم تتبين الاستعدادات للحرب في مصر؟
فأجابهم:
لم يكن هناك إنسان قط يستطيع أن يتبين أية استعدادات. فبعض معارفي وأقاربي من ضباط القوات المسلحة تقدموا بطلبات لزيارة الكعبة للعمرة.
وأضاف ابراهيم:
في حالة ما إذا كنت قد علمت بنية الحرب فكيف أتصل بكم . .؟ فالخطابات تأخذ وقتاً طويلاً وهي وسيلة الاتصال الوحيدة المتاحة.
وبعد اجتماع مطول قرر قادة الموساد تسليم ابراهيم أحدث جهاز إرسال لاسلكي في العالم يتعدى ثمنه المائة ألف دولار. فلقد كانت لديهم مخاوف تجاه الفريق سع الدين الشاذلي الذي يريد تصعيد الحرب. . والوصول الى أبعد مدى في سيناء مهما كانت النتائج. . عكس السادات الذي كان يريدها حرباً محدودة.
دُرب ابراهيم لمدة ثلاثة أيام على كيفية استخدام الجهاز. . وعندما تخوف من حمله معه الى القاهرة.. عرضوا عليه أن يذهب الى الكيلو 108 طريق القاهرة السويس الصحراوي. وهناك سيجد فنطاس مياه كبيرة مثقوب وغير صالح للاستخدام. . وخلفه جدار أسمنتي مهدم عليه أن يحفر في منتصفه لمسافة نصف المتر ليجد الجهاز مدفوناً. وأخبره ضابط الموساد الكبير أن راتبه قد تضاعف، وأن له مكافأة مليون دولار إذا ما أرسل للإسرائيليين عن يقين بميعاد حرب قادمة.
عاد ابراهيم الى أثينا ثم أنقره حيث تنتظره الأسرة. . فقضوا أوقاتاً جميلة يستمتعون بالمال الحرام وبثمن خيانتهم.
نهاية كل خائن
عندما رجعوا الى القاهرة استقلوا السيارة الى الكيلو 108 وغادرت انشراح السيارة وبيدها معول صغير. .وظلت تحفر الى أن أخرجت الجهاز. . فنادت على ابنها عادل الذي عاونها وحمله الى السيارة ملفوفاً في عدة أكياس بلاستيكية. . وعندما ذهبوا بالجهاز الى المنزل أراد ابراهيم تجربته بإرسال أولى برقياته فلم يتمكن من إكمال رسالته.. بعدما تبين له أن مفتاح التشغيل أصيب بعطل (ربما نتيجة الحفر بالمعول).
حزن الجميع. . لكن انشراح عرضت السفر لإسرائيل لإحضار مفتاح جديد.. وسافرت بالفعل يوم 26 يوليو 1974 ففوجئ بها أبو يعقوب ودهش لجرأتها. . وأراد الاحتفاء بها فأقام حفلاً صاخباً ماجناً على شرفها انتهى بليلة حمراء. . فأمتعت جسدها المتعطش لفحولة أبو يعقوب. . وأرقها الابتعاد عنه والحرمان من خبراته المذهلة وتفننه في إشباعها، ومنحها مكافأة لها 2500 دولار مع زيادة الراتب للمرة الثالثة الى 1500 دولار شهرياً (كان مرتب الموظف الجامعي حينذاك حوالي 17 جنيهاً).
وأثناء وجود انشراح في اسرائيل تائهة بين أحضان ضابط الموساد، كانت هناك مفاجأة خطيرة تنتظرها في القاهرة فعندما كان ابراهيم يحاول إرسال أولى برقياته الى إسرائيل بواسطة الجهاز – استطاعت المخابرات المصرية التقاط ذبذبات الجهاز بواسطة اختراع سوفييتي متطور جداً اسمه (صائد الموجات) وقامت القوات بتمشيط المنطقة بالكامل بحثاً عن هذا الجاسوس. ومع محاولة تجربة الجهاز للمرة الثانية أمكن الوصول لإبراهيم بسهولة.
وفي فجر 5 أغسطس 1974 كانت قوة من جهاز المخابرات المصرية تقف على رأس ابراهيم النائم في سريره. استيقظ مذعوراً وفي الحال دون أن توجه اليه كلمة واحدة في هلع:
أنا غلطان . . أنا ندمان .. الجوع كان السبب . . النكسة كانت السبب. . اليهود جوعوني واشتروني بالدقيق والشاي.
ولما فتشوا البيت عثروا على جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة. . والتزم ابراهيم الصمت. . وكان بدنه كله يرتجف. . سحبوه في هدوء للتحقيق معه في مبنى المخابرات العامة، بينما بقيت قوة من رجال المخابرات في المنزل مع أولاده الثلاثة تنتظر وصول انشراح، تأكل وتشرب وتنام دون أن يحس بهم أحد.
وعلى طائرة أليطاليا رحلة 791 في 24 أغسطس 1974، وصلت انشراح الى مطار القاهرة الدولي قادمة من روما بعد شهر كامل بعيداً عن مصر، تدفع أمامها عربة تزدحم بحقائب الملابس والهدايا، ونظرت حولها تبحث عن زوجها فلم تجده، فاستقلت تاكسياً الى المنزل وهي في قمة الغيظ. . وعندما همت بفتح الباب اقشعر جسدها فجأة، فدفعت بالباب لا تكترث. . لكنها وقفت بلا حراك. . وبالت على نفسها عندما تقدم أحدهم. . وأمسك بحقيبة يدها وأخرج منها مفتاحين للجهاز اللاسلكي بدلاً من مفتاح واحد. وكانت بالحقيبة عدة آلاف من الدولارات دسها الضابط كما كانت .. وتناول القيد الحديدي من زميله وانخرست الكلمات على لسانها فكانت تتمتم وتهذي بكلمات غير مفهومة . . وقادوها مع ولديها الى مبنى المخابرات وهناك جرى التحقيق مع الأسرة كلها.
ولما كانت المخابرات الاسرائيلية لا تعلم بأمر القبض على أسرة الجواسيس. . وتنتظر في ذات الوقت الرسالة التي سيبعث بها ابراهيم ليطمئنوا على كفاءة عمل الجهاز . . فوجئت الموساد بالرسالة.. لم تكن بالطبع من ابراهيم بل أرسلتها المخابرات المصرية.
"أوقفوا رسائلكم مساء كل أحد. . لقد سقط جاسوسكم وزوجته وأولاده، وقد وصلتنا آخر رسائلكم بالجهاز في الساعة السابعة مساء الأربعاء الماضي".
وفي 25 نوفمبر 1974 صدر الحكم بإعدام انشراح وزوجها شنقاً، والسجن 5 سنوات للابن نبيل وتحويل محمد وعادل لمحكمة الأحداث.
وفي 16 يناير 1977 سيق ابراهيم الى سجن الاستئناف بالقاهرة لتنفيذ الحكم، كان لا يقو على المشي. . والى حجرة الاعدام كان يجره اثنان من الجنود وساقاه تزحفان خلفه بينما هو يضحك في هستيريا ثم يبكي. . وبعدما تيقن من أنه سوف يُعدم أخذ يردد آيات من القرآن الكريم بكلمات غير مفهومة ثم صاح في انهيار: سامحني يا رب. . وتلا عليه مأمور السجن منطوق الحكم .. ثم ردد الشهادتين وراء واعظ السجن . . عندئذ عرضوا عليه آخر طلب له قبل إعدامه فطلب سيجارة.. وبعد أن انتهى من تدخينها جروه جراً الى داخل غرفة الإعدام . . فقام عشماوي بتقييد يديه خلف ظهره. . ثم ألبسه الكيس الأسود ووضع الحبل في رقبته . . وشد ذراعاً فانفتحت طاقة جهنم تحت قدميه. . وظل الجسد معلقاً في الهواء يتأرجح الى أن همد وسكن. . واستمر النبض ثلاث دقائق وعشر ثوان بعد التنفيذ . . حتى أعلن طبيب السجن وفاة الجاسوس الذي ظل يتعامل مع الموساد طوال سبع سنوات.
أما انشراح فقد ترددت الأنباء في حينها عن شنقها هي الأخرى .. ولكن في 26 نوفمبر 1989 نشرت صحيفة "حداشوت" الاسرائيلية قصة تجسس ابراهيم على صفحاتها الأولى . . وذكرت الصحيفة أن ضغوطاً مورست على الرئيس السادات لتأجيل إعدام انشراح بأمر شخصي منه. . ثم أصدر بعد ذلك عفواً رئاسياً عنها .. وتمكنت انشراح (في صفقة لم تعلن عن تفاصيلها) من دخول اسرائيل مع أولادها الثلاثة. . حيث حصلوا جميعاً على الجنسية الاسرائلية واعتنقوا الديانة اليهودية.. وبدلوا اسم شاهين الى (بن ديفيد) واسم انشراح الى (دينا بن ديفيد) وعادل الى (رافي) ونبيل الى (يوسي) ومحمد الى (حاييم) . . !!!
رافي بن ديفيد
(1) وعن اللحظات الأخيرة التي وضعت نهاية أسرة الجواسيس. . يقول أصغر الأبناء – عادل – في حديثه لصحيفة معاريف الاسرائيلية [1]
بعد حرب 73 قرر والدي نهائياً أن تكون هذه هي السنة الأخيرة لهم في أعمال التجسس. وكانت الخطة تقضي ببيع البيت والممتلكات والسفر للولايات المتحدة .. وأنا كفتى في الخامسة عشرة من عمره آنذاك فكرت قطعاً في المستقبل .. ووعدني والدي بإرسالي للدراسة في أفضل كلية هناك. وبعد ان اتخذوا قراراً بأن تكون هذه هي السنة الأخيرة لنا في مصر شعرنا أننا أكثر راحة وأزيح حجر ثقيل من على صدورنا.
لكن كان هناك حادثان في تلك السنة هزا ثقتنا. فقد أراد والدي تجنيد شقيقه أيضاً. وأتذكر النقاشات التي دارت بين أمي وأبي حول ذلك. . فقد خافت أمي من أن يسلمنا شقيق والدي .. وحتى اليوم لست أعرف هل عرف بذلك الأمر أم لا؟
والحادث الآخر كان بعد الحرب عندما قمنا بزيارة الأخوال .. وتشاجرت شقيقة أمي "فتحية" مع ابنتها نجوى. . وكانت هناك صرخات عالية في البيت وحاول أبي التدخل. . فأغلقت نجوى باب دورة المياة عليها وصرخت في أبي:
"لماذا تتدخل؟ فالجميع يعرف أنك تعمل مع الاسرائيليين".
فدخل أبي وراءها وصفعها، وحتى اليوم لا أعرف من أين عرفت . . وشعرنا أن الأمور خرجت عن السيطرة.
وفي إحدى المرات التي سافرت فيها أمي الى روماكي تحصل على قطع غيار لجهاز البث الذي عطب .. عاد أبي من العمل شاحباً، وجلس على أحد المقاعد ونظر لي وهمس:
"أعتقد أنهم قد تمكنوا مني".
وصمتنا ، وأضاف:
"لقد سألوا عني في العمل".
فبعد سبع سنوات من التجسس كان لأبي حواس حادة، وعندما قال لنا أنهم قد تمكنوا منه كان قد عرف ذلك عن يقين.
كان لدينا في البيت حوالي 6 شرائط أفلام، وبدأ أبي في تمزيقها وحرقها وحرق الخطابات. . وأدركنا أن الحكاية قد انتهت. . وحتى اليوم لست أدري لماذا لم يأخذنا أبي ويهرب ولماذا لم نطلب منه الهرب؟! وأنا أسترجع تلك الأيام في مخي حتى اليوم لا أفهم لماذا ظللنا في البيت؟
وفي صباح أحد الأيام استيقظنا على صوت طرقات قوية على الباب، وفي المدخل وقف ثلاثة من الرجال وسألوا أين أبي؟ فقلت لهم إنه في العمل، فدخلوا وطلبوا انتظاره. جلس اثنان منهم في الصالون والآخر أخذ مقعداً وجلس بجانب الباب. . وقلت له:
"سيدي من فضلك أدخل الى الصالون".
فأجابني قائلاً:
"أشعر بالراحة هنا". فتبادلت أنا وأخي نظرات فزعة، وحاول نبيل الدخول الى حجرة أبي كي يدمر الوثائق التي كانت هناك . . لكن الأدراج كانت مقفلة وكانت المفاتيح مع أبي، فتبادلنا نظرات يائسة ولم نعرف ما يمكن أن نفعله.
مرت ساعة بدت كأنها الدهر ثم سمعنا أصوات سيارات. واقترب من البيت موكب يتكون من عشر سيارات وكانت سيارة أبي تسير ببطء في المنتصف، وتوقفوا أمام المنزل، واقتحم البيت عشرات الجنود ورجال المخابرات وأدخلوا أبي معهم. . وبدأو في قلب البيت. . ولا يمكن وصف صرخات الفرحة التي خرجت من الجنود عندما وجدوا جهاز الارسال وهنأوا بعضهم قائلين "مبروك" وأحنى أبي رأسه وهمس لنا: "آسف يا أولادي".
ويكمل عادل الذي غير اسمه الى (رافي بن ديفيد) حسب الرواية الاسرائيلية:
بعد القبض على والدي تركتنا السلطات المصرية وكنا في حالة يرثى لها. . وأردت البكاء والصراخ ولم أستطع. . فقد انتهى العالم بالنسبة لي. . وبعد ساعات تحدث أخي محمد للمرة الأولى "ماذا عن أمي؟" يجب أن نحكي لها ما حدث.
وفي الرابع والعشرين من أغسطس عام 1974، في ساعات الصباح المبكر، وصلت أمي الى البيت، وفي جيب سري بالحقيبة كانت تخفي قطع غيار الجهاز. . وكانت قد اندهشت من عدم انتظار أبي لها في المطار، وسألت عند دخولها: "أين أبوكم؟" وكان العناق بيننا بارداً فقلت لقد سافر أبي الى الريف، فهكذا طلب منا رجال المخابرات المصرية إخبارها.
وفهمت أمي على الفور فلا يمكن الكذب على من يحيا في ظل الموت، فاقتحمت حجرة النوم للبحث عن الجهاز هناك ولم يكن الجهاز موجوداً، فجرت نحو الحمام كي تتخلص من المواد التي تحملها. لكن كان قد فات أوان ذلك، فقد اقتحم البيت اثنان من رجال المخابرات ، قال لها أحدهما:
"حمداً لله على سلامتك يا دنيا"
فتظاهرت أمي بالبراءة وقالت:
"من هي دنيا؟ أنا انشراح". . .
قالت ذلك بثقة فابتسم رجل المخابرات في رضا:
"لقد اعترف زوجك بكل شيء".
ذهبنا الى مبنى المخابرات وأمام المبنى الذي كنت أعرفه جيداً "فقد التقطنا له بعض الصور" استقبلني رئيس النيابة العسكرية محمد السبكي وقال لي:
"سترى أبويك قريباً".
وفي التحقيق الأول معي أنكرت وقلت إنني لا أعرف شيئاً فأخذني المحقق الى الفناء.