إن دور المرأة في عمل المخابرات والجاسوسية لا يمكن إغفاله. . فامرأة جميلة ذكية مدربة – في بلاد يسيطر عليها الجوع الجنسي – تكون أفضل من عشرة جواسيس مهرة. فسلاحها هو سحرها . . وجسدها . . وعندما تنصب شباكها. . يأتيها أعتى الرجال طائعاً . . خاضعاً. . ضعيفاً . . !! ".
تاريخ الزعيمة
لم تكن رحلة ترفيهية تلك التي خاضتها "شولا كوهين" من "اليعقوبة" شمالي بغداد، الى البصرة فميناء عبادان الإيراني .. إنما كانت رحلة مأساة عجيبة شاقة، يخيم عليها القلق والخوف والحذر، وتحمل مع كل خطوة رائحة العذاب والموت، سعياً وراء حلم الوطن الجديد في إسرائيل.
تحملت شولا ذات السبعة عشر ربيعاً ما يفوق طاقتها، الى أن وصلت وعائلتها لميناء حيفا. وما أن استقرت في تل أبيب حتى صفعتها الكوارث واحدة تلو الأخرى، دون أن تدرك الصغيرة الجميلة البضة لماذا؟
فعندما قتل والدها في انفجار عبوة ناسفة بسوق تل أبيب تأوهت هلعاً لا تصدق. . وازداد صراخها المكتوم وهي ترى أحلامها تتحطم فوق صخرة الوهم شيئاً فشيئاً. فإسرائيل ليست هي الجنة الموعودة، بل الخدعة الكبرى التي روجوا لها، ومن أجلها ضحوا بالكثير في سبيل الهرب من العراق.
مات والدها فلم تقو أمها على تصديق الحقيقة فخرت صريعة المعاناة والمرض، وألفت شولا صراخ شقيقها الأكبر، محتجاً على ميراث أبيه من الأبناء الستة والمسؤولية التي أثقلت كاهله، حتى التقت "بعازار"، ونبض قلبها الصغير بالحب لأول مرة، وظنت أن ثمة أمل جديد أشرق بحياتها، بيد أنها فجعت شر فجيعة بقتله هو الآخر في اشتباك مسلح مع أصحاب الأرض والوطن.
هكذا أسودت الحياة في وجهها وركنت الى الصمت والانزواء تفكر فيما أصابها، وماذا عساها أن تفعل؟ فتملكتها رغبة الانتقام من العرب، لكن شغلتها معاناة الحياة اليومية، والجوع الذي لا يكف صراخه ينهش العقل والبدن..
وبعد عام قضته مقعدة ماتت أمها، وطفق شقيقها ينفث غضبه بوجه إخوتها، فخرجت تسعى للعمل بإحدى العيادات بشارع "تساهالون هاروفيم"، ووفقت في الحصول على وظيفة مؤقتة، لمؤهلاتها الأنثوية المثيرة الصارخة فأسبغ عليها الراتب الضئيل مسحة من الطمأنينة والثقة بنفسها، وأحسب بالعيون الجائعة تعريها كل لحظة وترغبها.
فالجسد الممشوق المتناسق الأعضاء يغري بالالتهام، والعيون الناعسة الواسعة ذات الرموش الطويلة الكثيفة ترسم أروع صور العناق، والفم المبسام الأملود الدقيق يوحي بمذاقات القبل.
وطاردتها العيون والشهقات والهمسات والأيدي الجائعة، فاستسلمت لجنرال في الجيش الاسرائيلي من أصل بولندي يجيد العربية، كان دائم التردد على العيادة، وبين يديه تكشفت لها خطوط الحقيقة وتفاصيلها، فقد أدركت لأول مرة أنها تملك سلاحاً فتاكاً تستطيع به أن تقهر أية قوة. . أنوثتها الطاغية. . وكانت تشبه قنبلة ذرية تذيب بلهيبها الأجساد، وتسيطر بها في يسر على الأعصاب والعقول.
أدق عليها الجنرال الإسرائيلي بالمال والهدايا، فظنت أنها امتلكته، حتى استوعبت الأمر في النهاية. فالجنرال ما هو الا ضابط كبير في جهاز المخابرات، تقرب اليها مستغلاً ظروفها، وعلى وعد بتأمين حياتها أغرقها في محيط الجنس والمال، ثم كاشفها برغبته في أن تعمل لصالح الجهاز لتحافظ على أمن إسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى كي تعيش عيشة رغدة لا تحلم بها فتاة في مثل سنها في إسرائيل.
لم تكن شولا أمام واقعها المؤلم تستطيع رفض هذا العرض. فهي تحلم بالمجد المفقود الذي كم رنت اليه، إضافة الى استيقاظ رغبة الانتقام لديها من العرب الذين قتلوا والدها وحبيبها، وتسببوا في موت أمها كمداً.
لكل ذلك أعلنت موافقتها راضية مقتنعة، لتبدأ بعدها أغرب مغامراتها في عالم المخابرات والجاسوسية، فتستحق عن جدارة لقب "الزعيمة" الذي أطلق عليها في الموساد، ذلك لأن ما قامت به لصالح إسرائيل على مدى تسع سنوات متصلة، مثير جداً. . وجريء. . وعجيب كل العجب. . !!
نساء إسرائيل
مهما تطورت أجهزة الاستخبارات في العالم فلا يمكن إغفال دور المرأة في ميدان التجسس، فامرأة جميلة .. ذكية . . بمقدورها أن تكون جاسوسة كاملة تفوق الرجل، إذا استغلت مهاراتها وحدة ذكائها وسلطان سحرها، خاصة في بلاد يسيطر عليها "الجوع الجنسي" كبلادنا العربية.
فالجاسوس الرجل. . يعتمد في الغالب على مهاراته وقوته البدنية، وشجاعته واندفاعه الى درجة الإجرام.. وهو عادة يعمل سراً في الخفاء.
أما المرأة الجاسوسة. . فسلاحها سحرها وفتنتها وجسدها. ولذلك تظهر في أكثر الحالات ضمن هالات الأضواء على حلبات المسارح والملاهي، تعرض فتنتها فتثير النفوس، وتلقي شباكها ليأتيها من يرغبها طائعاً. . خاضعاً.. ضعيفاً. . وخلال اعتراك لهيب الأجساد العارية، والقبلات، ورعشات الرغبة الساحرة، تنسكب المعلومات بلا ضابط، وتفشي الأسرار المصفدة بالكتمان وتباح كل المحظورات.
وقد يتساءل البعض:
هل تقبل المرأة في عالم المخابرات والجاسوسية، أن تضحي بشرفها للسيطرة على أعصاب شخص ما؟
وللإجابة نقول:
نعم. فأجهزة المخابرات في العالم كله تعتبر التضحية بالشرف، وبكل ما هو ثمين، أمر جائز في سبيل الوطن، بل ويعد ذلك أثمن معاني الوطنية.
وعلى ذلك، يطلب من الجاسوسات أن يستسلمن لشخصيات بعينها، توصلاً لجمع معلومات سرية تفيد المصلحة العامة، والعنصر النسائي في المخابرات الإسرائيلية بوجه خاص أمر إجباري.
فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم منذ عام 1948، التي تفرض التجنيد الإجباري على النساء وقت "السلم"، حيث تستخدم النساء والفتيات في شتى المجالات العسكرية والسرية والجاسوسية، لتحقيق أهداف إسرائيل في الأمن والتوسع حتى ولو بالجنس. فالجنس سلاح اليهود منذ القدم، وقد أجادوا استخدامه وأتقنوه لدرجة الاحتراف وتفوقوا بذلك على الأمم الأخرى.
ومن النادر جداً أن تخلو قصة تجنيد جاسوس لإسرائيل من المرأة والجنس. ولم أصادف أبداً حتى الآن في عشرات المراجع والملفات التي بين يدي عن الجاسوسية اليهودية، حالة واحدة لجاسوس جندته إسرائيل خلت من الجنس، حتى في حالة الخائنة هبة سليم التي اشتهرت باسم عبلة كامل، فقد استغلت انوثتها كجاسوسة إسرائيلية، وأغرت الضابط المصري المقدم فاروق الفقي، وفعلت معه كما تفعل نساء الموساد في غرف النوم.
وفي حالة الأردنية أمينة داود المفتي، فأؤكد بأنها لم تتعاون مع الموساد بعد نصب "مصيدة العسل" المعتادة. لكن ارتباطها جنسياً بطيار يهودي في فيينا – وهي المسلمة – ثم زواجهما لأمر بشع ومقيت. وهذا ما حدث أيضاً مع انشراح المصرية التي سيطر عليها ضابط الارتباط الإسرائيلي بالجنس في تركيا.
إنه واقع محير وشائك، رجال أوقعت بهم فتيات، وفتيات أوقع بهن رجال. عالم عجيب حقاً، كلما تبصرنا أسراره تملكتنا الدهشة وازددنا اقتناعاً بأن الجنس هو المحرك الأول للجاسوسية، دستورها المقدس عند اليهود منذ الأزل وحتى اليوم. . أما المال فيأتي في المرتبة الثانية مهما بدت رغبة الثراء متوشحة، أثيرة !!
في بناية الأمباسادور
التحقت شولا أرازي كوهين بالموساد قانعة، وخضعت لتدريب مبدئي في مبنى خاص يقع في "كيريا" بتل أبيب، وأوكلت لأمهر خبراء الموساد مهمة ترويض تلك المخلوقة العجيبة الجمال ليصنعوا منها جاسوسة ذكية، مثقفة، لبقة، تجيد إدارة الحوار واجتذاب الرجال والسيطرة على أعصابهم.
ونظراً لكونها شرقية من العراق ولم تحظ بقدر كاف من التعليم. . فقد بعثوا بها الى لندن لتمتزج بالمجتمع والدنيا هناك وتتعلم التحدث بالانجليزية.
وعلى مدار عام ونصف العام استطاعوا أن يستخرجوا منها خلاصة مخلوقة ثانية، مدربة على فنون التجسس والإغواء والسيطرة. وبأوراق ثبوتية مزورة، سافرت الى بيروت في سبتمبر 1952، لتبدأ من هناك أولى مهامها التجسسية واثقة من قدراتها الفائقة، لا تحمل اسلحة فتاكة سوى جسدها المثير.
وفي ساحة المطار الخارجية، تهافت عليها سائقو الأجرة، وأوصلها أحدهم الى وسط بيروت حيث نزلت بفندق "الجراند أوتيل"، وفي المساء غادرت الفندق تملأ مسامعها شهقات الإعجاب طوال تجوالها في شوارع المدينة المكتظة بالجمال.
كان عليها أن تستتر وراء وظيفة ما، أو مهمة جاءت بها الى بيروت، ولم يكن الأمر بحاجة الى إثباتات. فقد ادعت بأنها مندوبة لإحدى الشركات السياحية الأوروبية، جاءت للبحث عن وكلاء في لبنان، فانفتحت لها بذلك الأبواب المغلقة، واقتربت كثيراً من برسيخ أقدامها تمهيداً للعمل. . خاصة بعدما تركت الفندق، وانتقلت الى إحدى الشقق الفاخرة ببناية "الأمباسادور" الشهيرة.
كانت مهمتها الأولى البحث عن مسؤول لبناني له نفوذ قوي في الدوائر الرسمية، تستطيع من خلاله أن تنفذ الى ما تصبو اليه.. وأخيراً عثرت على ضالتها في شخص موظف كبير اسمه "محمود عوض" . . كان يشغل آنذاك أكثر من ست وظائف حكومية. . فذهبت لمقابلته للاستفسار عن إجراءات تمديد إقامتها، فسقط في شباكها وخر صريع سحرها، وتعمد تطويل الإجراءات ليراها كثيراً، فتركت له جواز سفرها وأخلفت ميعادها معه. . ثم اتصلت هاتفياً به لتخبره بمرضها وأعطته عنوان شقتها ليرسل به اليها.
وكما توقعت الجاسوسة المدربة، فقد ذهب اليها اللبناني الذائب بنفسه يحمل جواز سفرها وباقة من الورود، فاستقبلته بملابس شفافة تفضح معالم جسدها، وكان عطرها الفواح الذكي ينشر جواً من الأحلام والرغبة والاشتهاء. . ومنحته في النهاية جسدها مقابل خدمته.. فبات منذ تلك اللحظة عبداً لجمالها تحركه كفيما تشاء، ولا يرفض لها أمراً.
انشغل محمود عوض بمعشوقته وهو المسؤول المهم بإحدى الدوائر، وشهدت شقة الأمبا سادور المحرمة التي تستغرق معظم وقته. فكان ينزف مع رجولته أسراراً حيوية للغاية تمس لبنان وأمنه. إذ كان يعوض ضعفه الشديد أمام أنوثتها الفتاكة بسرد تفاصيل عمله، وتتملكه نشوة الانتشاء عندما يجيب باستفاضة عن استفساراتها ويراها منبهرة مشدوهة "متغابية"، وبعد انصرافه على أوراقها تكتب كل ما تفوه به، وتخطط لما سيكون عليه الحال في اللقاء التالي.
الطابور النائم
كانت أوليات مهام شولا كوهين في بيروت، السيطرة على أكبر عدد من المسؤولين الحكوميين بواسطة الجنس، حتى إذا ما ترقوا في وظائفهم وأصبحوا ذوي شأن في صناعة القرار، أعيد من جديد إيقاظهم للعمل لصالح إسرائيل، وهؤلاء يطلق عليهم العملاء النائمون. فحينما يتبوءون المناصب العليا، يسهل إخضاعهم لتمييع المواقف السياسية المستقبلية ضد إسرائيل، ويشكلون بذلك طابوراً طويلاً من المسؤولين يدور في فلك إسرائيل .. وينفذ سياساتها دونما انحراف عن الخط المرسوم.
لذلك، وسعت شولا من علاقاتها بالمسؤولين اللبنانيين، وكانت الدائرة شيئاً فشيئاً، تتسع لتشمل موظفين رسميين بشتى الجهات الحكومية، كلهم سقطوا صرعى الجسد الناعم الملتهب وفورانات الإثارة.
وبالطبع، لم تكن شولا بقادرة وحدها على إشباع رغبات كل هؤلاء، إنما عمدت بحاستها المهارية الى التعرف على فتيات حسناوات، باحثات عن المال، جمعتهن حولها وسخرتهن لتوثيق دائرة معارفها. واستلزم منها ذلك تأجير شقة أخرى، لتخفيف حدة زحام جوعى اللذاذات بشقتها.
وفي عام 1956 كانت تستأجر خمسة منازل في مختلف أنحاء بيروت، مجهزة بأفخر أنواع الأثاث، ومزودة بكاميرات دقيقة وأجهزة تسجل كل ما يجري بغرف النوم، وكانت أشهر فتاة لديها، طفلة أرمينية تدعى "لوسي كوبيليان" عمرها أربعة عشر عاماً تخلب بجمالها الألباب وتذيب العقول.
هذه الطفلة المرأة كانت إحدى نقاط القوة في شبكة شولا.. فقد تهافت عليها الرجال كالذباب، وسجدوا لجمالها وفتنتها، أما شولا – الزعيمة – فآثرت ألا تمنح جسدها إلا لكبار المسؤولين ذوي المراكز الحساسة كي تستخلص بنفسها ما تريده منهم.
ولما تزاحم العمل، رأت الموساد أن تعضد شولا في مهمتها، فضمت اليها اليهودية "راشيل رافول" في طرابلس، وبانضمام راشيل، اتخذت شبكة شولا مساراً جديداً لم يكن في الحسبان..فالعضوة الجديدة مدربة وماهرة جداً.. ولها خبرة طويلة بأعمال الدعارة في لبنان.
وبالتعاون مع "إدوارد هيس" ضابط الارتباط الإسرائيلي في بيروت، أمكن القيام بعدة عمليات جريئة لتهريب أموال اليهود اللبنانيين المهاجرين لإسرائيل، بوسيلة "إشهار الإفلاس"، التي سهلت عملية "إميل نتشوتو" التاجر اللبناني اليهودي، الذي هرب لإسرائيل بعدما سرق ملايين الليرات من البنوك والتجار. وكذا عملية "إبراهيم مزراحي" التاجر الطرابلسي الشهير الذي هرب أيضاً بالملايين الى اليونان، ثم لإسرائيل، بينما انخرطت زوجته "ليلى مزراحي" في خدمة الشبكة . . لتسهيل عمليات تهريب أخرى بما لها من علاقات بزوجات أثرياء اليهود.
وبتهريب يهود لبنان بأموالهم المسروقة الى إسرائيل..أضير الاقتصاد اللبناني ضرراً بالغاً، واضطرت بعض المصارف الى الاستغناء عن خدمات بعض موظفيها المتورطين، وكاد للعملية كلها أن تنكشف لو لم يكن هناك مسؤولون كبار أمكن السيطرة عليهم من قبل.. استطاعوا في الوقت المناسب عمل تغطية للفضيحة وإخمادها الى حين.
جنت شولا كوهين ثمار عملها، واستشعرت قيمة مهمتها في بيروت للسيطرة على الكبار بالجنس، ذلك لأن محمود عوض أول الخاضعين لها لم يتوان عن التستر على نشاطها، ومساعدتها بما يملك من سلطات في نهب اقتصاد بلده.
هكذا دفع النجاح شولا كوهين لتطور من أسلوب عملها، وتنتهج مسلكاً أكثر فعالية في العمل.
ابن الجنوب العاشق
بعدما اتسع نطاق شبكة الجاسوسية، وبالتالي تعددت مصادر التقارير والأسرار، كانت شولا تعاني من صعوبة نقل المعلومات المتدفقة عليها الى إسرائيل، ورأت أن الحل يكمن في تجنيد أحد اللبنانيين قاطني الجنوب نظراً لسهولة تسلله الى إسرائيل بالمعلومات والتقارير، دون أن تثير تحركاته أحداً.
فكرت جدياً بهذه الحيلة، في ذات الوقت الذي سعت فيه لإيجاد مركز يجمعها بجواسيسها، وبواسطة كبار المسؤولين اللبنانيين، استأجرت عميلة الموساد إحدى الكافيتريات بشارع "الحمراء"، وحولتها الى "بار" يزدان بالديكورات والحسناوات أطلقت عليه اسم بار "الرامبو".
ومع الخمر والليل وجدت ضالتها المنشودة في شخص ابن الجنوب الساذج – محمد سعيد العبدالله – الذي حملته ساقاه ذات مساء الى البار ..فتسمر منبهراً باللحم الأبيض يتراقص ويتمايع، معلناً ويعلن عن مواطن الإثارة في صراحة..وثقلت عليه رغباته المكبوتة فتاه عقله، وأحكمت شولا سيطرتها عليه بعدما تأكد لديها أنه سقط لآخره في براثنها.
وفي ليلة حمراء أريقت فيها الخمور المعتقة، وذبلت العيون وتراخت الأعصاب في وهن، فاتحته في الأمر. وكم كانت واثقة من إجابته، فإنه على استعداد لأن يفعل كل شيء في سبيل ألا يخسرها، أو يضيع لحظة واحدة من أوقات المتعة التي أدمنها. فحملته بالتقارير والمعلومات، وتسلل بها الى الجانب الإسرائيلي..ولم يرجع اليها بأوامر الموساد الجديد فقط، بل اصطحب معه ابن عمه "فايز العبد الله" الشاب المغامر..الذي يعرف الدروب الجبلية ومواطن الضعف الأمني بمناطق الحدود الجنوبية.
وعلى انفراد، أخبر شولا بأن ابن عمه مستعد هو الآخر للانضمام الى شبكة الجاسوسية مقابل المال. فلم تمنحه شولا المال وحده، بل وهبته أجمل فتياتها اللاتي ضيعن لبه، وسحرنه بما لم يألفه من متع النشوة، ليدور في النهاية كسابقيه في فلك الخيانة والتردي.
وأخيراً جاء لها سعيد بابن العم الثالث "نصرت العبدالله" طائعاً مختاراً هو الآخر، وكأنما عائلة العبد الله قد جبلت كلها على الخيانة واعتادتها..
وبذلك أمكن لشولا أن تنقل ملفات تقاريرها أولاً بأول عبر هؤلاء الثلاثة الى قادتها في إسرائيل دونما صعوبة. .أو تشكك من الجهات الأمنية اللبنانية..
بذلك..تحول ملهى الرامبو الى مركز لاصطياد الجواسيس وملتقى لهم في ذات الوقت، وأيضاً، ليعاين كبار الموظفين اللبنانيين الفتيات المثيرات المختارات فتتضاعف خدماتهم لشبكة شولا..في وقت لم تكن ظروف الأمن في لبنان مهيأة لتتبع النشاط التجسسي الاسرائيلي في بيروت، بسبب انشغال الميليشيات الطائفية بتسليح نفسها، على حساب قوة الجيش والأمن الداخلي.
لقد انقلبت المفاهيم العسكرية في لبنان حتى أن قوى الأمن الداخلي كانت في حالة صراع لا يتوقف مع الجيش. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبودلت الأدوار أيضاً وتسلمت قوى الجيش حراسة بعض المرافق العامة بدلاً من قوى الأمن الداخلي، واستعمل الجيش كنقاط أمنية منفردة بعيداً عن ملاحقة الميليشيات العسكرية، التي كانت تستولي على آليات الجيش ومدرعاته وأسلحته، واعتقاد رئيس الجمهورية اللبناني في قصر "بعبدا" أنه هو لبنان، وهو الشرعية.
وبسيطرة العقلية العائلية على نظام إدارة الحكم والدولة، كان هناك استرخاء أمني أدى الى تغلغل الجواسيس وانتشارهم في ربوع لبنان، حيث لا يوجد جهاز مخابراتي نشط بتعقب الجاسوسية المضادة. . أو يعمل على وقف سيلان المعلومات الحيوية عن الدولة الى العدو المتربص في أقصى الجنوب.
عزيز الأحدب
تغافل محمود عوض، المسؤول اللبناني الكبير عما تقوم به شولا في لبنان..مكتفياً بالليالي الملتهبة بين أحضان الحسان، ولما أدرك قيمة الخدمات التي يؤديها مقابل الجنس، صارح شولا بأنه الخاسر بلا شك..وطالبها بمقابل مادي حيث أن هدفه الأسمى في الحياة هو المال والثراء.
انزعجت شولا لطلبه الجديد فهو ثري في الأصل، وما كان يطلب منها سوى فتيات صغيرات جميلات يعدن اليه شبابه.
وبرغم سيطرتها عليه بوسائل عدة، منها تصويره في أوضاع شائنة مع أكثر من تسع فتيات، إلا أنها نفت فكرة تهديده، ذلك لأنه يعرف جيداً كل المتعاملين معها من ذوي المراكز، وكتبت بذلك الى رؤسائها فوافقوا على رأيها، فأغدقت عليه الأموال مقابل تقاريره عن موظفي الدولة والدوائر الرسمية، التي كان يحملها العبد الله الى الاسرائيليين عبر الحدود في أوقات معينة متفق عليها.
وفي مايو 1958، وصل الى بيروت ضابط سوري مسؤول، اجتمع من فوره بأحد ضباط الأمن اللبنانيين، وأبلغه بنشاطات شولا كوهين المشبوهة.. وإحاطتها بأسرار غاية في السرية عن الجيش اللبناني والسوري معاً.. تجلبها من خلال شخصيات على مستوى المسؤولية في البلدين على علاقة بها.
كانت خيبة أمل الضابط السوري كبيرة، عندما أخبره زميله اللبناني بأن شولا بعيدة عن الشبهات. وتم حفظ محضر الاجتماع في الأدراج برغم تأكيدات السوريين.
وفي بداية عام 1961 وقع محضر الاجتماع تحت يد ضابط لبناني شهم اسمه "عزيز الأحدب" فقرأ ما تحويه السطور.. وبدأ في جمع المعلومات في سرية تامة عن شولا.. وفوجئ بعد عدة أشهر من المراقبات والتحريات بأن الفتاة تدير أكبر شبكة جاسوسية إسرائيلية في لبنان.. امتدت نشاطاتها لتشمل كل مناحي الحياة المدنية والعسكرية، ليس ذلك فحسب، بل تجمعت لديه أدلةكافية، بأنها وراء عمليات تهريب اليهود اللبنانيين الى إسرائيل، بواسطة "آل العبدالله" الذين يجيدون استخدام الدروب الوعرة في الجنوب.
هكذا، وبعد تسع سنوات من التجسس، ألقى عزيز الأحدب القبض على شولا كوهين في أغسطس 1961، واعترفت في الحال على شركائها، واثقة من أن نجدة ستجيئها حالاً من إسرائيل.
وأمام القضاء العسكري اللبناني تكشفت حقائق مذهلة، عن تورط شخصيات عديدة مسؤولة، في إمدادها بأدق الأسرار والتقارير التي تمس لبنان وكيانه.
أصدرت المحكمة في 25 يوليو 1962 حكماً بالسجن مدة عشرين عاماً على شولا كوهين، التي أطلق عليها اليهود لقب "الزعيمة" و 15 عاماً على زميلتها راشيل رافول.
أما محمود عوض فقد قضى نحبه في سجن الرملة في يونيو 1962 إثر نوبة قلبية فاجأته قبل الحكم عليه، فلقي جزاء ربه وحكمه العادل.
لكن المثير للدهشة حقاً، أن يصدر حكماً بسجن آل العبدالله الثلاثة عشرون شهراً فقط لكل منهم . . الى جانب أحكام أخرى بالسجن تقل عن عام على مسؤولين لبنانيين ضالعين في الجاسوسية، بما يؤكد ما ذكرناه آنفاً من ميوعة القوانين الجنائية التي يعمل بها في لبنان، وكانت سبباً رئيسياً من أسباب تحول بيروت الى أشهر عاصمة عربية يأمن فيها الجواسيس على رقابهم، وساحة تباع فيها الأسرار القومية بأجساد النساء وتشترى..!!