.

The Encyclopedia of Do you know the right search engine, you can search for certain information!Choose today if you want a piece of information to search for!
معلومات عن فيروس كورنا
عناوين الاماكن
عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث 1951. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات
عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث 1951. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات
هل تعلم عبد الحليم حافظ اشهر فنان فى الوطن العربي \ قصة حياة عبد الحليم حافظ



طه حسين

طه حسين (1306 هـ / 15 نوفمبر 1889 - 1393 هـ / 28 أكتوبر 1973م)، أديب وناقد مصري، لُقّب بعميد الأدب العربي. غيّر الرواية العربية، مبدع السيرة الذاتية في كتابه "الأيام" الذي نشر عام 1929. يعتبر من أبرز الشخصيات في الحركة العربية الأدبية الحديثة. لا تزال أفكار ومواقف طه حسين تثير الجدل حتى اليوم.

درس في الأزهر، ثم التحق بالجامعة الأهلية حين افتتحت عام 1908، وحصل على الدكتوراه عام 1914 ثم ابتعث إلى فرنسا ليكمل الدراسة. عاد إلى مصر ليعمل أستاذا للتاريخ ثم أستاذا للغة العربية. عمل عميدا لكلية الآداب، ثم مديرا لجامعة الإسكندرية، ثم وزيرا للمعارف. من أشهر كتبه: في الشعر الجاهلي (1926) ومستقبل الثقافة في مصر (1938).

مولده ونشأته
ولد "طه حسين علي بن سلامة" يوم الجمعة 15 نوفمبر 1889، وكان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه حسين، وخامس أحد عشر من أشقائهِ، في قرية الكيلو قريبة من مغاغة إحدى مدن محافظة المنيا في الصعيد الأوسط المصري ولم يمر على عيني الطفل أربعة من الأعوام حتى أصيبتا بالرمد ما أطفا النور فيهما إلى الأبد؛ ويرجع ذلك إلى الجهل وعدم جلب أهله للطبيب بل استدعوا الحلاق الذي وصف لهُ علاجا ذهب ببصره، وكان والده حسين عليّ موظفًا صغيرًا رقيق الحال في شركة السكر. أدخله أبوه كتاب القرية للشيخ محمد جاد الرب لتعلم العربية والحساب وتلاوة القرآن الكريم وحفظه في مدة قصيرة أذهلت أستاذه وأقاربه ووالده الذي كان يصحبه أحياناً لحضور حلقات الذكر، والاستماع إلى عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي.

تعليمه
دخل طه حسين جامع الأزهر للدراسة الدينية والاستزادة من العلوم العربية في عام 1902، فحصل فيه على ما تيسر من الثقافة، ونال شهادته التي تخوله التخصص في الجامعة، لكنه ضاق ذرعاً فيها، فكانت الأعوام الأربعة التي قضاها فيها، وهذا ما ذكره هو نفسه، وكأنها أربعون عاماً وذلك بالنظر إلى رتابة الدراسة، وعقم المنهج، وعدم تطور الأساتذة والشيوخ وطرق وأساليب التدريس.

ولما فتحت الجامعة المصرية أبوابها عام 1908 كان طه حسين أول المنتسبين إليها، فدرس العلوم العصرية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا، وعدداً من اللغات الشرقية كالحبشية والعبرية والسريانية، وظل يتردد خلال تلك الحقبة على حضور دروس الأزهر والمشاركة في ندواته اللغوية والدينية والإسلامية. ودأب على هذا العمل حتى سنة 1914، وهي السنة التي نال فيها شهادة الدكتوراة وموضوع الأطروحة هو: "ذكرى أبي العلاء" ما أثار ضجة في الأوساط الدينية، وفي ندوة البرلمان المصري إذ اتهمه أحد أعضاء البرلمان بالمروق والزندقة والخروج على مبادئ الدين الحنيف.

وفي العام نفسه، أي في عام 1914 أوفدته الجامعة المصرية إلى مونبلييه بفرنسا، لمتابعة التخصص والاستزادة من فروع المعرفة والعلوم العصرية، فدرس في جامعتها الفرنسية وآدابها، وعلم النفس والتاريخ الحديث. بقي هناك حتى سنة 1915، سنة عودته إلى مصر، فأقام فيها حوالي ثلاثة أشهر أثار خلالها معارك وخصومات متعددة، محورها الكبير بين تدريس الأزهر وتدريس الجامعات الغربية ما حدا بالمسؤولين إلى اتخاذ قرار بحرمانه من المنحة المعطاة له لتغطية نفقات دراسته في الخارج، لكن تدخل السلطان حسين كامل حال دون تطبيق هذا القرار، فعاد إلى فرنسا من جديد لمتابعة التحصيل العلمي، ولكن في العاصمة باريس فدرس في جامعتها مختلف الاتجاهات العلمية في علم الاجتماع والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث وأعد خلالها أطروحة الدكتوراة الثانية وعنوانها: ((الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون))، وكان ذلك عام 1918 إضافة إلى إنجازه دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، والنجاح فيه بدرجة الامتياز، وفي غضون تلك الأعوام كان قد تزوج من سوزان بريسو الفرنسية السويسرية الجنسية التي ساعدته على الإطلاع أكثر فأكثر باللغة الفرنسية واللاتينية، فتمكن من الثقافة الغربية إلى حد بعيد.

كان لهذه السيدة عظيم الأثر في حياته، فقامت لهُ بدور القارئ فقرأت عليهِ الكثير من المراجع، وأمدته بالكتب التي تمت كتابتها بطريقة برايل حتى تساعده على القراءة بنفسه، كما كانت الزوجة والصديق الذي دفعه للتقدم دائماً وقد أحبها طه حسين حباً جماً، ومما قاله فيها أنه "منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم"، وكان لطه حسين اثنان من الأبناء هما: أمينة ومؤنس.

أساتذته
كان الأستاذ الأول لطه حسين هو الشيخ محمد جاد الرب، الذي علمه مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وتلاوة القرآن الكريم في الكتاب الذي كان يديره بمغاغة في عزبة الكليو.

وتلقى العلم في الجامع الأزهر على يد عدد من الأساتذة والمشايخ وكان من أبرزهم: سيد المرصفي، والشيخ مصطفى المراغي، والشيخ محمد بخيت، والشيخ عطا، والشيخ محمد عبده، وقد أعجب بادئ الأمر كثيراً بآراء هذا الأخير واتخذه مثالاً في الثورة على القديم والتحرر من التقاليد.

وتتلمذ طه في الجامعة المصرية على يد كل من أحمد زكي في دروس الحضارة الإسلامية، أحمد كمال باشا في الحضارة المصرية القديمة، والمستشرق جويدي في التاريخ والجغرافيا. أما في الفلك فتتلمذ على كارلو ألفونسو نللينو، وفي اللغات السامية القديمة على المستشرق ليتمان، وفي الفلسفة الإسلامية على دافيد سانتلانا، وفي تاريخ الحضارة الشرقية القديمة على ميلوني، والفلسفة على ماسينيون، والأدب الفرنسي على كليمانت.

أما في جامعة باريس فدرس التاريخ اليوناني على غلوتسس، والتاريخ الروماني على بلوك، والتاريخ الحديث على سيغنوبوس، وعلم الاجتماع على اميل دوركايم، وقد أشرف هذا ومعه بوغليه على أطروحته عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية بمشاركة من بلوك وكازانوفا.

عودته لمصر
لما عاد طه حسين إلى مصر عام 1919 عين أستاذا للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة المصرية، وكانت جامعة أهلية، فلما ألحقت بالدولة عام 1925 عينته وزارة المعارف أستاذاً فيها للأدب العربي، فعميداً لكلية الآداب في الجامعة نفسها، وذلك عام 1928، لكنه لم يلبث في العمادة سوى يوم واحد؛ إذ قدم استقالته من هذا المنصب تحت تأثير الضغط المعنوي والأدبي الذي مارسه عليه الوفديون، خصوم الأحرار الدستوريين الذي كان منهم طه حسين.

وفي عام 1930 أعيد طه حسين إلى عمادة الآداب، لكن وبسبب منح الجامعة الدكتوراة الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية المرموقة مثل عبد العزيز فهمي، وتوفيق رفعت، وعلي ماهر باشا، ورفض طه حسين لهذا العمل، أصدر وزير المعارف مرسوما يقضي بنقله إلى وزارة المعارف، لكن رفض العميد تسلم منصبه الجديد اضطر الحكومة إلى إحالته إلى التقاعد عام 1932.

على أثر تحويل طه حسين إلى التقاعد انصرف إلى العمل الصحفي فأشرف على تحرير ((كوكب الشرق)) التي كان يصدرها حافظ عوض، وما لبث أن استقال من عمله بسبب خلاف بينه وبين صاحب الصحيفة، فاشترى امتياز ((جريدة الوادي)) وراح يشرف على تحريرها، لكن هذا العمل لم يعجبه فترك العمل الصحفي إلى حين، كان هذا عام 1934.

وفي العام نفسه أي عام 1934 أعيد طه حسين إلى الجامعة المصرية بصفة أستاذ للأدب، ثم بصفة عميد لكلية الآداب ابتداء من عام 1936. وبسبب خلافه مع حكومة محمد محمود استقال من العمادة لينصرف إلى التدريس في الكلية نفسها حتى عام 1942، سنة تعيينه مديراً لجامعة الإسكندرية، إضافة إلى عمله الآخر كمستشار فني لوزارة المعارف، ومراقب للثقافة في الوزارة عينها. وفي عام 1944 ترك الجامعة بعد أن أُحيل إلى التقاعد.

وفي عام 1950، وكان الحكم بيد حزب الوفد صدر مرسوم تعيينه وزيراً للمعارف، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1952، تاريخ إقامة الحكومة الوفدية، بعد أن منح لقب الباشوية عام 1951، وبعد أن وجه كل عنايته لجامعة الإسكندرية، وعمل رئيساً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضواً في العديد من المجامع الدولي، وعضواً في المجلس العالي للفنون والآداب.

وفي عام 1959 عاد طه حسين إلى الجامعة بصفة أستاذ غير متفرغ، كما عاد إلى الصحافة فتسلم رئاسة تحرير الجمهورية إلى حين.

في مكة والمدينة
في عام 1955 ذهب طه حسين لأداء فريضة الحج، واستغرقت رحلته تسعة عشر يوماً، وكان لهذه الرحلة صدى واسع في كل مكان، وكان استقباله هناك استقبالاً مهيباً، وعرساً لا مثيل له. فكان في استقباله الملك سعود، والأمراء والأعيان والوجهاء والأدباء والإعلاميون، واحتفت به المؤسسات الثقافية والهيئات العلمية كافة. كما استقبلته هناك بعثة الأزهر الشريف، وكان من بينها الشيخ محمد متولي الشعراوي، إذ كان يعمل أستاذاً في كلية الشريعة، الذي لم يقف من طه حسين موقفاً سلبياً، مجاراة لزملائه الأزهريين المعروفة خصومتهم آنذاك لطه حسين، بل على العكس، رحب به ترحيباً كبيراً، وحيَّاه، وأعرب طه حسين عن سعادته بهذه الرحلة الإيمانية إلى الحجاز، فقال: «لقد تركتْ زيارتي للحجاز آثاراً قوية رائعة في نفسي، لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث. وحسبك أنها الموطن الذي أشرق منه نور الإسلام، ونشأت فيه الحضارة العربية الإسلامية. وما أعرف قُطراً من أقطار الأرض أثَّرَ في عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم كما أثَّرتْ هذه البلاد، وكما أثّرَ الحجاز فيها بنوع خاص».

وعن مشاعره نحو?«مكة» و?«المدينة» قال طه حسين: «هما المدينتان المقدستان اللتان تهوي إليهما أفئدة المسلمين، من زارهما منهم ومن لمْ يزرهما، ولم أكن إلاَّ واحداً من هؤلاء المسلمين الذين يزورون مكة والمدينة منذ شَرَعَ الله الدين الحنيف للناس». وبعد زيارته لمدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسجد النبوي، حاول رجال الصحافة وأعيان المدينة المنورة أن يستمعوا للدكتور طه حسين، ببيانه الساحر، ومنطقه الرائع، وأن يظفروا بما ظفر به الجمهور في مكة وجدة، لكنه أمسك عن القول، على رغم الإلحاح الشديد والمحاولات المتكررة، معتذراً عن عدم الكلام بقوله: «ما كان لي أن أتكلم في مدينة النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وما كان لي أن أرفع صوتي وقد قال الله تعالى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ)».

وكتب الصحافي علي حافظ: «شُوهِد طه حسين أثناء وقوفه عند «الحديبية» وهو يأخذ حفنة من التراب ويُقبّلها، وعندما سئل عن ذلك قال: «لعلَّ الرسول وطئَ هنا». وسئل أيضاً عن شعوره نحو مهبط الوحي؟ فقال: «أمَّا رأيي فيها فهو رأي كل مسلم يقدِّر مهد الإسلام حق قدره، ويتمنى أن تكون مشرق النور في مستقبل أيامها كما كانت مشرق النور حين اختصها الله بكرامته، فابتعث فيها (مُحمَّداً) عليه السلام شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه القرآن هُدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان». وسئل عن أول مؤلفاته الإسلامية وآخرها، فقال: كتاب «على هامش السيرة»، وآخرها «مرآة الإسلام». كما سئل عن الشخصية التي استهوته، فقال: «أولاً رسول الله، وثانياً: عمر بن الخطاب، وثالثاً: عليّ بن أبي طالب».

في الشعر الجاهلي
في عام 1926 ألف طه حسين كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي" وعمل فيه بمبدأ ديكارت وخلص في استنتاجاته وتحليلاته أن الشعر الجاهلي منحول، وأنه كتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين. تصدى له العديد من علماء الفلسفة واللغة ومنهم: مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين ومحمد لطفي جمعة والشيخ محمد الخضري ومحمود محمد شاكر وغيرهم. كما قاضى عدد من علماء الأزهر طه حسين إلا أن المحكمة برأته لعدم ثبوت أن رأيه قصد به الإساءة المتعمدة للدين أو للقرآن. فعدل اسم كتابه إلى "في الأدب الجاهلي" وحذف منه المقاطع الأربعة التي اخذت عليه.

أفكاره
دعا طه حسين إلى نهضة أدبية، وعمل على الكتابة بأسلوب سهل واضح مع المحافظة على مفردات اللغة وقواعدها، ولقد أثارت آراؤه الكثيرين كما وجهت له العديد من الاتهامات، ولم يبالي طه بهذه الثورة ولا بهذه المعارضات القوية التي تعرض لها ولكن استمر في دعوته للتجديد والتحديث، فقام بتقديم العديد من الآراء التي تميزت بالجرأة الشديدة والصراحة فقد أخذ على المحيطين به ومن الأسلاف من المفكرين والأدباء طرقهم التقليدية في تدريس الأدب العربي، وضعف مستوى التدريس في المدارس الحكومية، ومدرسة القضاء وغيرها، كما دعا إلى أهمية توضيح النصوص العربية الأدبية للطلاب، هذا بالإضافة لأهمية إعداد المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة العربية، والأدب ليكونوا على قدر كبير من التمكن والثقافة بالإضافة لاتباع المنهج التجديدي، وعدم التمسك بالشكل التقليدي في التدريس.

من المعارضات الهامة التي واجهها طه حسين في حياته تلك التي كانت عندما قام بنشر كتابه "الشعر الجاهلي" فقد أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة، والكثير من الآراء المعارضة، وهو الأمر الذي توقعه طه حسين، وكان يعلم جيداً ما سوف يحدثه فمما قاله في بداية كتابه :

   طه حسين هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم يألفه الناس عندنا من قبل، وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورارا. ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث أو بعبارة أصح أريد أن أقيده فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة.
وليس سرا ما تتحدث به إلى أكثر من مائتين، ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعا ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزور.

وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة، وزخر الأدب الجديد.

   طه حسين
نقده
أخذ على طه حسين دعوته إلى الأَوْرَبة. كما أخذ عليه قوله بانعدام وجود دليل على وجود النبيين إبراهيم وإسماعيل فضلا عن زيارتهما الحجاز ورفعهم الكعبة سالكا بذلك المنهج الديكارتي في التشكيك ،ويقول في هذا الصدد.

   طه حسين للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما ولكن هذا لا يكفي لصحة وجودهما التاريخي.    طه حسين
كما أنتقد لمساندته عبد الحميد بخيت أمام الأزهر في فتوى جواز الإفطار في نهار رمضان لمن يجد أدنى مشقة. واتهم بالكفر والإلحاد 

الرد عليه
قام مصطفى صادق الرافعي بتأليف كتاب سماه تحت راية القرآن للرد على كتاب في الشعر الجاهلي وألف كذلك بين القديم والجديد للرد على كتاب ألفه طه حسين وهو مستقبل الثقافة في مصر وعلى كتاب سلامة موسى المدعو اليوم والغد. وقد صنف إبراهيم عوض مؤلفا جمع فيه أقوال النقاد والمؤرخين سماه "معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين".

قام سيد قطب بتأليف كتاب أسماه "نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين، وممن رد عليه أنور الجندي في كتابه "محاكمة فكر طه حسين"

كما رد عليه وائل حافظ خلف في كتابه الذي أسماه "مجمع البحرين في المحاكمة بين الرافعي وطه حسين ". وألمح في آخر بحثه إلى أن طه حسين قد رجع بعدُ عن رأيه في الشعر الجاهلي بمقالة كتبها، مستدلاً بقول العلامة محمود محمد شاكر في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" (حاشية ص163) ط/ مكتبة الخانجي - الطبعة الثانية : ((قد بينت في بعض مقالاتي أن الدكتور طه قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي، بهذا الذي كتبه، وببعض ما صارحني به بعد ذلك، وصارح به آخرين، من رجوعه عن هذه الأقوال. ولكنه لم يكتب شيئا صريحًا يتبرأ به مما قال أو كتب. وهكذا كانت عادة ((الأساتذة الكبار))! يخطئون في العلن، ويتبرأون من خطئهم في السر !!)) انتهى.

كما عارضه خالد العصيمي في بحثه "مواقف طه حسين من التراث الإسلامي".وأفرد محمود مهدي الاستانبولي في كتابه طه حسين في ميزان العلماء والأدباء فصلا عن نقد طه حسين وكذلك صابر عبد الدايم في بحثه "بين الرافعي وطه حسين تحت راية القرآن"..

مناصب وجوائز
اضطلع طه حسين خلال تلك الحقبة، وفي السنوات التي أعقبتها بمسؤوليات مختلفة، وحاز مناصب وجوائز شتى، منها تمثيلة مصر في مؤتمر الحضارة المسيحية الإسلامية في مدينة فلورنسا بإيطاليا عام 1960، وانتخابه عضوا في المجلس الهندي المصري الثقافي، والإشراف على معهد الدراسات العربية العليا، واختياره عضوا محكما في الهيئة الأدبية الطليانية والسويسرية؛ وهي هيئة عالمية على غرار الهيئة السويدية التي تمنح جائزة بوزان. ولقد رشحته الحكومة المصرية لنيل جائزة نوبل، وفي عام 1964 منحته جامعة الجزائر الدكتوراة الفخرية، ومثلها فعلت جامعة بالرمو بصقلية الإيطالية، عام 1965. وفي السنة نفسها ظفر طه حسين بقلادة النيل، إضافة إلى رئاسة مجمع اللغة العربية، وفي عام 1968 منحته جامعة مدريد شهادة الدكتوراة الفخرية، وفي عام 1971 رأس مجلس اتحاد المجامع اللغوية في العالم العربي، ورشح من جديد لنيل جائزة نوبل، وأقامت منظمة اليونسكو الدولية في اورغواي حفلاً تكريمياً أدبياً قل نظيره. وشغل طه حسين أيضا منصب وزير التربية والتعليم في مصر.

من أقواله
   طه حسين أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب..    طه حسين
   طه حسين ويل لطالب العلم إن رضي عن نفسه.    طه حسين
وفاته
توفي طه حسين يوم الأحد 28 أكتوبر 1973م عن عمر ناهز 84 عاما.

قال عنه عبَّاس محمود العقاد إنه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة، والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير.

وقال عنه الدكتور إبراهيم مدكور اعتدّ تجربة الرأي وتحكيم العقل استنكر التسليم المطلق ودعا إلى البحث والتحري بل إلى الشك والمعارضة وأدخل المنهج النقدي في ميادين لم يكن مسلَّمًا من قبل أن يطبق فيها وأدخل في الكتابة والتعبير لونًا عذبًا من الأداء الفني حاكاه فيه كثير من الكُتَّاب وأضحى عميدَ الأدب العربي بغير منازع في العالم العربي جميعه وأنتج له عملا باسم مسلسل الأيام قام بدور البطولة أحمد زكي.

مؤلفاته
كتبه الفكرية  :-

على هامش السيرة.
الشيخان.
الفتنة الكبرى عثمان.
الفتنة الكبرى علي وبنوه.
مستقبل الثقافة في مصر.
مرآة الإسلام.
فلسفة ابن خلدون الإجتماعية.
نظام الإثينيين.
من آثار مصطفى عبد الرزاق.
حديث المساء.
غرابيل.
كتبه النقدية :-

في الشعر الجاهلي.
في الأدب الجاهلي.
الحياة الأدبية في جزيرة العرب.
فصول في الأدب والنقد.
حديث الأربعاء.
حافظ وشوقي
صوت أبي العلاء
مع أبي العلاء في سجنه
تجديد ذكرى أبي العلاء
مع المتنبي
من حديث الشعر والنثر
من أدبنا المعاصر
ألوان
خصام ونقد
من لغو الصيف
من الشاطيء الآخر (كتابات طه حسين بالفرنسية)
أدبنا الحديث ما له وما عليه
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا
قادة الفكر
كتبه الإثرائية :-

المعذبون في الأرض.
الأيام.
أحلام شهرزاد.
أديب.
رحلة الربيع.
أيام العمر (رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم).
دعاء الكروان.
شجرة البؤس.
الحب الضائع.
الوعد الحق.
في الصيف.
بين بين.
أحاديث.
جنة الحيوان.
ما وراء النهر.
مدرسة الأزواج
مرآة الضمير الحديث
جنة الشوك
لحظات
نقد وإصلاح
من بعيد
من أدب التمثيل الغربي
صوت باريس (قصص مترجمة)
من هناك (قصص مترجمة)
أوديب وثيسيوس: من أبطال الأساطير اليونانية.
في مرآة الصحفي.
مذكرات طه حسين.
انظر أيضاً
مؤنس طه حسين
متحف طه حسين
المراجع
 معرف الجريدة الرسمية للدولة الإسبانية: http://www.boe.es/buscar/act.php?id=BOE-A-1950-11848
 طه حسين، مؤلف مصر. (الموسوعة البريطانية) نسخة محفوظة 12 مارس 2017 على موقع واي باك مشين.
 طه حسين بين التحرير والتغريب: دراسة نقدية لكتاب مستقبل الثقافة في مصر. نسخة محفوظة 02 يوليو 2017 على موقع واي باك مشين.
 شوقي ضيف (1961). الأدب العربى المعاصر في مصر. القاهرة: دار المعارف. مؤرشف من الأصل في 28 مارس 2018.
 شوقي ضيف. طه حسين والشعر الجاهلي: بين نفحات المستشرقين وظلال العرب. المنهل. مؤرشف من الأصل في 28 مارس 2018.
 محمود السمرة. سارق النار. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. مؤرشف من الأصل في 28 مارس 2018.
 رؤساء جامعة الإسكندرية في 75 عاما.. أولهم طه حسين وبينهم سيدة واحدة نسخة محفوظة 28 مارس 2018 على موقع واي باك مشين.
 اتهامات مغرضة طاولت عميد الأدب العربي… أسقطها التاريخ وثائق مجهولة تكشف خفايا من حياة طه حسين ومسيرته الفكرية - علي عطا - الخميس 20 يونيو 2019 اندبندينت عربية
 كتاب الأيام، مطابع أكتوبر، ص22
 رحلة طه حسين إلى الحجاز،القاهرة - صلاح حسن رشيد | منذ 13 أكتوبر 2012 / 00:00 ، الحياة
 جاءوا من وادي الجن! أنيس منصور نسخة محفوظة 03 يناير 2014 على موقع واي باك مشين.
 معركة الشيخ بخيت وطه حسين مع الأزهر حول جواز إفطار رمضان نسخة محفوظة 17 أغسطس 2017 على موقع واي باك مشين.
 طه حسين.. الإبحار في بحر الظلمات (3) نسخة محفوظة 04 ديسمبر 2008 على موقع واي باك مشين.
 طه حسين.. الإبحار في بحر الظلمات (4) نسخة محفوظة 04 أغسطس 2008 على موقع واي باك مشين.
 بين الرافعي وطه حسين تحت راية القرآن (2 من2) نسخة محفوظة 16 فبراير 2018 على موقع واي باك مشين.
 مستقبل الثقافة في مصر، ص 41
 صفحة اقتباسات طه حسين على موقع أبجد،[وصلة مكسورة] نسخة محفوظة 22 مايو 2014 على موقع واي باك مشين.
 مؤسسة هنداوي - طه حسين نسخة محفوظة 03 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.
 
 تحميل مؤلفات عميد الأدب العربي طه حسين (أكثر من 70 كتابا) نسخة محفوظة 10 ديسمبر 2017 على موقع واي باك مشين.
 
 هذه هي الكتب المفضلة لطه حسين من بين مؤلفاته | اليوم الجديد نسخة محفوظة 03 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.
 
 

فالجاسوس عندما يعشق امرأة يبث فيها سمومه رويداً رويداً. . فتموت . . أو قد تنقلب مثله الى أفعى سامة. . عندئذ تكون سمومه مصلاً واقياً يقيها خطره الفتاك . . فتتوحش. . وتقوى لديها روح المغامرة. . وتقامر بحياتها لمرة واحدة فقط.

والمرأة . . عندما تعشق جاسوساً.. فإن حبها له قد يحوله – أحياناً – من ثعبان قاتل الى قط أليف لا يستخدم مخالبه. . وربما منحه الثقة ليعمل بفاعلية أكثر . . تدعوها الى مشاركته والدخول معه الى وكر الجواسيس.

فالحبيبة التي صارت حية رقطاء. . تضحي – تأكيداً لحبها – بكل ثمين في سبيل حبيبها.

وفي عالم الجاسوسية . . من باعت الوطن في سبيل الحب . . ما عزّ عليها بيع أولادها. . أو قذفهم الى وكر الثعابين..

وهذا ما فعلته انشراح بسبب الحب . . !!!

أزمة لم تطلْ

في مدينة المنيا ولدت انشراح علي موسى عام 1937 لأسرة متوسطة الحال .. وبرغم التقاليد المتزمتة في ذلك الوقت دخلت الفتاة الصعيدية المدرسة وواصلت تعليمها حتى حصلت على الشهادة الاعدادية عام 1951.

وبعد نجاحها بأيام قليلة أراد والدها مكافأتها فاصطحبها معه الى القاهرة لحضور حفل عرس أحد أقاربه.

كانت انشراح ذات وجه مليح وعينان نجلاوان .. وجسد دبت به معالم الأنوثة وخرطته خرطاً. . فبدت أكبر كثيراً من سنها.. مما لفت الأنظار اليها واخترقتها سهام الباحثين عن الجمال. . فكانت تقابل تلك النظرات بحياء فطري غلف ملامحها مما أزادها جمالاً فوق جمال.

وفي حفل العرس اصطدمت نظراتها البريئة بنظراته.. فتملكها الخجل وتوردت خدودها للسلع لذيذ أحست به يجتاح مشاعرها.. فيوقظها من رقدتها.. معلناً عن مولد مشاعر جديدة غزت عقلها وقلبها لأول مرة.

كان فتاها الذي حرك فيها دماء الأنثى هو إبراهيم سعيد شاهين ابن العريش المولود عام 1929. . الذي ما غادر الحفل إلا وعرف عنها كل شيء. وبعد أيام قلائل فوجئت به يطرق باب بيتها في المنيا برفقته والده.. طارت انشراح من السعادة وحلقت بين السحب بخيالها تستطلع مستقبلها الهنيء. . فمنذ رأته في الحفل انغرس حبه بصدرها. . وباتت ليالي تحلم به وتترقب الليل لتسرح معه طويلاً. . وتطوف مع نظراته الحانية في عوالم الأمل. . والحبور. .

وانزعجت الفتاة الصغيرة عندما اعترضت والدتها في أمر زواجها منه. . متحججة ببعد المسافة بين المنيا والعريش. . وبكت بحرقة وهي ترى أحلامها الوردية تكاد أن تحقق. . ثم سرعان ما تنهار في ذات الوقت .. دون أن تقدر على عمل شيء..

وأمام عيونها الصامتة .. سألها أبوها: 
  أتوافقين عليه يا ابنتي.. ؟

فكان في صمتها إجابتها..

وأعلنت الخطبة..

وفي أول حديث مع خطيبها صارحته بأنها أعجبت به مذ رأته في حفل القاهرة. . وازداد إعجابها به حينما سعى وراءها حتى المنيا ليطلب يدها.

وأكد لها الشاب الولهان أنه تمناها زوجة له منذ النظرة الأولى.. ويومها عاهد ربه ألا تضيع منه أبداً..

وفي حفل أكثر من رائع انتقلت انشراح الى بيت الزوجية في العريش. . تحفها السعادة بحبيبها الذي أيقظ فيها مشاعر دفينة لم تكن تدركها. . وأرسل الى قلبها سهام الحب فأسلمت اليه نفسها.. وتدفقت موجات متلاحقة من الحب مع كل نبضة من نبضات قلبها الصغير.

كان إبراهيم شاهين يعمل كاتب حسابات بمكتب مديرية العمل بالعريش. . وهو أيضاً لم يحصل سوى على الإعدادية مثلها. . لذلك. . اتفق وانشراح على أن يواصل أولادهما تعليمهم حتى أعلى الشهادات العلمية. . وأصبح هذا الأمل هو هدفهما الذي يسعيان اليه ويعملان على تحقيقه مهما كانت الظروف.

ومرت بهما الشهور حلوة هنيئة تحفل بالبشاشة والانسجام. . فلم يكن إبراهيم يرى في الدنيا زهرة أجمل من وجه حبيبته. . ولا يسمع صوتاً أرق من صوتها. . ولا يظل عقله بمكانه كلما انفرد بها وهي ترقص له بملابسها الشفافة.. فهي تحب الرقص ويستهويها الجنس .. وهو يعشق هذا الجسد الذي يتلوى وينثني أمامه عارياً. . وتحول الجنس عندهما كالهواء، ماتا لو لم يتعاطيانه كل يوم. . إنه يطلبه منها صراحة. . وتطلبه هي تدللاً، وبنظراتها فوران من الرغبة كالجحيم. وكانا إذا ما أظلتهما سحابة حزن فسريعاً ما تنقشع. . حتى اشتهر حبهما بين الأهل والأقارب وبدا قوياً عتياً لا يقطعه الملل أو يضعفه الكلل.

وفي أواخر عام 1955 زرقا بمولودهما الأول "نبيل". . ثم جاء المولود الثاني محمد عام 1956، ثم عادل في 1958، فعظم حبه لها لأنها ملأت عليه الدنيا بهجة. . وملأت بيته بضجيج الأبناء الثلاثة. . وهكذا سارت بهما الحياة ترفل في أهازيج الفرح وأغاريد الوئام.

وفي عام 1963 – وكما اتفقا من قبل – أرسلا بأولادهما الى عمهم بالقاهرة ليواصلوا الدراسة هناك. . وليعيشوا حياة رغدة بعيداً عن مظاهرة البداوة وظروف الحياة الأقل حظاً من العاصمة.. وفي أكتوبر 1966 ضبط إبراهيم يتلقى الرشوة وحبس ثلاثة أشهر.. خرج بعدها ليكتشف مدى قسوة الظروف التي تمر به. . والمعاناة الشديدة في السعي نحو تحقيق آماله في الارتقاء والثراء.

وذات يوم من أيام التاريخ المكفهرة – اجتاحت إسرائيل سيناء واحتلتها في يونيو 1967 . . وأغلقت فجأة أبواب السبل أمام السفر الى القاهرة. . فتأزمت انشراح نفسياً قلقاً على أولادها. . وكانت كلما نامت تراهم في المنام يستغيثون بها فتصرخ وتستيقظ. . ويحتضنها الزوج الملتاع في حنان ويهدئ من روعها. . وإن كان هو الآخر لا يقل عنها قلقاً واشتياقاً لهم.

هكذا تظل انشراح تبكي معظم الليل والنهار حتى قارب عودها على الذبول.. وأوشك جمالها أن ينطفئ.. ووجد إبراهيم أن الحياة في العريش كما لو كانت في الأسر.. فالحزن يخيم على البيت الذي ما عرف إلا الضحك والفرح.. والمعيشة أضحت في أسوأ حال.. فمنذ الغزو وهو عاطل عن العمل لا يملك المال الذي يشتري به أبسط الأشياء.. كالشاي.. والشاي عند البدوي يعد من الضروريات الأساسية في حياته. . فاستعاض عنه إبراهيم بعشب بري يعرف باسم "المرمرية" له مذاق طيب.. وأصبحت المرمرية مشروباً مستقلاً في بيته بعدما كانت وريقاتها تضاف الى الشاي كالنعناع.

وسط هذا المناخ كانت المخابرات الاسرائيلية تعمل بنشاط زائد.. وتسعى لتصيد العملاء بسبب الضغوط المعيشية الصعبة وظروف الاحتلال. . فالاحتلال الفجائي لسيناء وقع على سكانها كالصاعقة، فاختنقت نفوس الأهالي برغم اتساع مساحات الأرض والجبال. . ولكونهم ذوي تقاليد بدوية ومحبين للحركة والتجوال والتنقل، أحسوا بثقل الأمر ولم يطيقونه . . لكن الظروف التي وضعوا فيها اضطرتهم الى محاولة تحملها لثقتهم أنها أزمة لن تطول. لكن ما كان يحز في نفوسهم هو تضييق الخناق عليهم في المعيشة والتنقل.. فكانت التصاريح التي يمنحها الحاكم العسكري الإسرائيلي لا تتم بسهولة. . وأصبح السفر الى القاهرة يحتاج لمعجزة من السماء. فالتعنت في منح التصاريح بلغ منتهاه.. واشتدت عضات الغضب في الصدور.. الى جانب آلام الجوع التي تنهش الأبدان وتجتث الصبر والقوة.

الأفعى النائمة

ضاقت الحياة باتساعها على إبراهيم وانشراح في العريش.. وخلا البيت من الطعام والشراب والسرور. . وخيمت قتامة سوداوية على نفسيهما. . فازدادا يأساً وشوقاً الى الأبناء في العاصمة.. وأمام البكاء المستمر الذي تورمت له عينا انشراح. . اندفع ابراهيم الى مكتب الحاكم العسكري يطلب تصريحاً له ولزوجته بالسفر الى القاهرة.

ولما ماطلوه كثيراً بوعود كاذبة .. صرخ في وجه الضابط الاسرائيلي قائلاً إنه فقد عمله ودخله ولا يملك قوت يومه. . فطمأنه الضابط "أبو نعيم" ووعده بالنظر في أمر التصريح في أسرع وقت. . وبعد حديث طويل بينهما حاول ابراهيم خلاله التقرب اليه لإنجاز التصريح. . أمر له أبو نعيم بجوال من الدقيق وبعض أكياس الشاي والسكر. . فحملها فرحاً الى زوجته وهو يزف اليها السفر الى القاهرة عما قريب.

استبشرت انشراح خيراً وغمرتها السعادة بما جاءها به، وغاصت في أحلامها وتخيلاتها باللقاء الحميم مع فلذات أكبادها. لكن الأيام تمر وأبو نعيم يعد ولا ينفذ .. ويعود إبراهيم في كل مرة محبطاً. . لكنه كان يحمل معه دائماً أكياس المواد التموينية التي أصبحت هي المصدر الوحيد للإعاشة.. ولولاها لمات جوعاً هو وزوجته.

وذات صباح فوجئ بمن يستدعيه لمكتب أبو نعيم.. فذهب اليه في الحال وقدم له الشكر على الإعانة الدورية التي يمنحها له.. فأخبره الضابط بأن الحاكم العسكي وافق على منحه تصريح السفر هو وزوجته..

تهلل وجه ابراهيم بشراً وقبل ظهر يده شكراً لله.. فباغته أبو نعيم وقال له بأن موافقة الحاكم العسكري جاءت بشرط أن يكون متعاوناً ويأتيه بأسعار الفاكهة والخضروات في مصر.. والحالة الاقتصادية للبلد بواسطة أخيه الذي يعمل بالاستيراد والتصدير.

أجاب إبراهيم على الفور أن الشرط بسيط للغاية. . فبإمكانه القيام بهذه المسألة خير قيام. . وأضاف بأنه سيأتيهم بأسعار السلع الاستهلاكية والبقالة والسمك أيضاً.. ولو أنهم أرادوا أكثر من ذلك لفعل.

عندئذ.. وضحت الرؤية للضابط الإسرائيلي.. فقد نجح ابراهيم شاهين في الاختبار الأول.. وكان عليه أن يتصرف معه حسبما هو متبع.. ويحيله الى الضابط المختص لإكمال المهمة.. فدوره ينحصر فقط في "الفرز" لا أكثر.

وبينما ابراهيم وانشراح يحتفلان بالأمل الجديد الذي راودهما طويلاً.. توقفت سيارة جيب أمام المنزل، وطلب منه جندي أن يرافقه الى مكتب الأمن. . وهناك كان ينتظره ضابط يدعى "أبو يعقوب" بالغ في الاحتفاء به بدعوى أن أبا نعيم أوصاه به خيراً. فشكره ابراهيم وأثنى على أبو نعيم وامتد بينهما الحوار لوقت طويل. . استشف أبو يعقوب بحاسته أن ابراهيم يدرك ما يبتغيه منه.. فطلب منه أن يذهب معه الى بئر سبع .. حيث المكتب الرئيسي للأمن المختص بالتعامل مع أبناء سيناء.

وفي بئر سبع استضافوه وأكرموه بكل السبل، ولوحوا له بإغراءات ما كان يحلم بمثلها يوماً. . نظير إغراقه بالنقود وتأمين حياته وذويه في العريش وافق إبراهيم على التعاون مع الإسرائيليين في جمع المعلومات عن مصر.. وتسلم – كدفعة أولى – ألف دولار في الوقت الذي لم يكن يملك فيه ثمن علبة سجائر.

لم تكن تلك الإغراءات أو التهديدات المغلفة هي وحدها السبب الأول في سقوطه.. لكن تشريح شخصيته يعطينا مؤشراً عن استعداده الفطري للخيانة.. فلا يمكن لشخص سويّ أن يستسهل بيع نفسه ووطنه هكذا بسهولة.. لمجرد منفعة مادية مؤقتة.. فالمؤكد أن خلايا الخيانة كانت قابعة بين أنسجته منذ ولادته. . وكان يجاهد كثيراً حتى وجد لها منفذاً فأخرجها.

ففي بئر سبع تغير المشهد.. إذ تحول ابراهيم شاهين من مواطن يسعى للحصول على تصريح بالسفر الى القاهرة .. الى جاسوس لإسرائيل وعيناً لها على وطنه.

تناقض شاسع بين الحالين يدعونا للبحث في تقلبات النفس البشرية التي لا يعلم سرها إلا خالقها..

أخضع الجاسوس الجديد لدورة تدريبية مكثفة تعلم أثناءها الكتابة بالحبر السري وتظهير الرسائل.. ووسائل جمع المعلومات من الأهل والأصدقاء. . درب أيضاً على كيفية التمييز بين الطائرات والأسلحة المختلفة.. واجتاز العميل الدورة بنجاح أذهل مدربيه. . فأثنوا عليه ووعدوه بالثراء وبالمستقبل الرائع. . وبحمايته في القاهرة حتى وهو بين ذويه . . فعيونهم في كل مكان لا تكل.

دربوه أيضاً على كيفية بث الإشاعات وإطلاق النكات السياسية التي تسخر من الجيش والقيادة .. الى جانب الاحتراز وامتلاك الحس الأمني العالي، ولقنوه شكل الاستجواب الذي سيتعرض له حال وصوله القاهرة من قبل أجهزة الأمن، وكيف ستكون إجاباته التي لا تثير الشكوك من حوله.

وعندما رجع الى بيته محملاً بالهدايا لزوجته وأولاده. . دهشت انشراح وسألته عن مصدر النقود .. فهمس لها بأنه أرشد اليهود عن مخبأ فدائي مصري فكافأوه بألف دولار. . ووعدوه بمنحه التصريح خلال أيام.

بهتت الزوجة البائسة لأول وهلة .. ثم سرعان ما عانقت زوجها سعيدة بما جلبه لها .. وقالت له في امتنان: 
  كانوا سيمسكونه لا محالة . . إن عاجلاً أم آجلاً. .

فسألها في خبث: 
  ألا يعد ذلك خيانة .. ؟

فغرت فاها وارتفع حاجباها في استنكار ودهشة وأجابته: 
  مستحيل . . كان غيرك سيبلغ عنه ويأخذ الألف دولار. . أنت ما فعلت إلا الصح.

غمغم ابراهيم كأنه مستاء مما فعل وأضاف: 
  لقد عاملوني بكرم شديد. . ووعدوني بالكثير بسبب إخلاصي.. وتعهدوا بحماية أهلي وأقاربي إذا ما تعاونت معهم في القاهرة . .

صرخت انشراح في هلع: 
  تعاونت معهم في القاهرة .. ؟ يانهار اسود يا ابراهيم .. كيف .. ؟

وهي يغلق فمها بيده: 
  طلبوا مني موافاتهم بأسعار الخضر والفاكهة في مصر نظير 200 دولار لكل خطاب.
أذهلها المبلغ فسرحت بخيالها وألجمها الصمت ثم قالت له فيما يشبه الهمس: 
  أنا خائفة.

جذبها الى صدره واحتضنها بقوة وأخذ يردد: 
  أنا لا أملك عملاً الآن وليس لي مورد رزق. . وبالمعلومات التافهة التي طلبوها سآخذ الكثير وسنعيش في مأمن من الفقر. . ثم إنني لست عسكرياً حتى أخاف على نفسي. . ولأنني رجل مدني فمعلوماتي ستكون هزيلة ولن تفيدهم بشيء.

وظل الثعبان ينفث السم الزعاف في أذني زوجته حتى هدأت.. وشمل المنزل سكون لا يقطعه الا صوت ارتطام الرغبة .. وتصادم جسدان يلهثان بفعل رعشات الشوق وحرارة اللقاء.

وبعدما هدأت الأنفاس وجف العرق. . وارتمت الأعضاء تتوسل الراحة .. لامست بخدها خده . . ولفح وجهه شعرها الكث الناعم الرطب. . وأعلنت المفاجأة التي شلت تفكيره. . وتركيزه أيضاً. .

قالت له إنها لكي لا تكون قلقة خائفة . . يجب أن يطلعها على رسائله أولاً بأول. . وأن تقوم بشطب أية معلومات لا داع لإرسالها لهم.

ولما وافقها ابراهيم على الشرط النهائي لموافقتها. . نامت قريرة العين تتوسد ذراعه. . واستغرق هو في تفكير عميق .. بينما أنفاسها المنتظمة الرتيبة تشبه فحيح أفعى تتربص بفريستها.

أفضل تغطية

في 19 نوفمبر 1967 وصل ابراهيم وانشراح الى القاهرة بواسطة الصليب الأحمر الدولي .. فمنح سكناً مجانياً مؤقتاً في حي المطرية .. ثم أعيد الى وظيفته من جديد بعدما نقلت محافظة سيناء مكاتبها من العريش الى القاهرة.

وبعدما استقرت الأمور قليلاً. . انتقل ابراهيم الى حي الأميرية المزدحم .. ومن خلال المحيطين به في العمل والمسكن . .بدأ في جمع المعلومات وتصنيفها.. وكانت زوجته تساعده بتهيئة الجو الآمن لكتابة رسائله بالحبر السري.. وكثيراً ما كانت تعيد صياغة بعض الجمل بأسلوب أفضل .. وتكتب أيضاً حياتها الى الموساد على أنها شريكة في العمل. . واعتاد ابراهيم أن يختتم رسائله بعبارة: 
"تحيا اسرائيل العظمى . .موسى".

ولأجل التغطية اتجه الى تجارة الملابس والأدوات الكهربائية .. وبواسطة المال والهدايا كان يتغيب كثيراً عن العمل غالبية أيام الأسبوع، ولشهور عديدة تواصلت الرسائل الى روما مزدحمة بالأخبار .. مما حدا برجال الموساد الى دعوته الى روما لاستثمار هذا الثنائي الرائع في مهام أكثر أهمية ..

وفي أغسطس 1968 وتحت ستار التجارة لا أكثر . . أبحر الثعبان والحية الى لبنان. . ومنها طارا الى روما حيث التقيا بمندوب الموساد الذي سلمهما وثيقتي سفر إسرائيليتين باسم موسى عمر ودينا عمر .. وعلى طائرة شركة العال الاسرائيلية طارا الى مطار اللد. .

كان استقبالهما في إسرائيل بالغ الحفاوة والترحيب . . إذ عوملا معاملة كبار الزوار. . وأنزلا بفيلا خيالية في تل أبيب مكثا بها ثمانية أيام .. حصلا خلالها على دورة تدريبية مكثفة في تحديد أنواع الطائرات والأسلحة .. والتصوير الفوتوجرافي.. وجمع المعلومات .. ومنح ابراهيم رتبة عقيد في الجيش الاسرائيلي باسم موسى . أما انشراح فقد منحت رتبة ملازم أول باسم دينا.

وفي مقابلة مع أحد القيادات العليا في الموساد .. أكدت إنشراح على ضرورة زيادة المكافآت لاشتراكها في العمل يداً بيد مع ابراهيم. . ووصفت له صعوبة جمع المعلومات ما لم يشتركا معاً في جمعها وتصنيفها .. وأفاضت في سرد العديد من الحيل التي تقوم بها لانتزاع المعلومات من العسكريين الذين صادقهم زوجها ويجيئون لمنزلهم.. ومن ذلك أنها تعلن بمرارة مدى كراهيتها للإسرائيليين وتنتظر يوم الانتقام منهم .. ولأنهم يتحدثون مع امرأة جميلة سرعان ما تنفك عقدة ألسنتهم . . وتخرج الأسرار منهم بسهولة . . خاصة والخمر تدغدغ الأعصاب وتذهب بالعقل.

ونظراً لأهمية المعلومات التي حصلوا عليها من خلال الجاسوس وزوجته. . فقد قرروا لهما مكافأة سخية وأغدقوا عليهما بآلاف الدولارات التي عادا بها الى القاهرة .. حيث استغلا وجودهما وسط حي شعبي فقير في عمل الصداقات مع ذوي المراكز الحساسة من سكان الحي. . وإرسال كل ما يصل اليهما من معلومات الى الموساد فوراً..

لقد برعا خلال حرب الاستنزاف – 1967 – 1970 – في التحليل والتصنيف، وتصوير المنشآت العسكرية أثناء رحلات للأسرة بالسيارة الجديدة فيات 124.

يقول الابن الأصغر عادل في حديث نشرته جريدة معاريف الإسرائيلية عام 1997:

"لن أنسى ذلك اليوم الملعون من صيف 1969 طيلة حياتي . . فقد استيقظت مبكراً على صوت همسات تنبعث من حجرة نوم والدي. . كان أبي وأمي مستغرقين في نقاش غريب. .وكانت أمي تمسك في يدها حقيبة جلدية بينما كان أبي يحاول إدخال كاميرا الى داخلها لم أر مثلها من قبل في ذلك الحين.

كانت أمي غاية في العصبية وقالت له: لا ليس كذلك. . هكذا سيرون الكاميرا. فأخرج أبي الكاميرا وأدخلها مرات ومرات الى الحقيبة.. فجلست أنظر اليهما وهما يتناقشان . . ثم قال لي أبي: نحن ذاهبون الى رحلة الى الاسكندرية.

وخلافاً لنا نحن الأولاد الذين سعدنا جداً بالقيام بهذه الرحلة . . كان الوالد والوالدة غاية في القلق. . ولم أرهما متوترين الى هذا الحد من قبل.

أخذ أبي يتصبب عرقاً كلما ابتعدنا عن القاهرة، الى أن بلل قميصه تماماً كلما ابعتدنا أكثر فأكثر من القاهرة. وكان يتبادل الكلمات مع أمي بصعوبة، وصمتنا نحن أيضاً لشعورنا أن هذه الرحلة ليست ككل رحلة.

وفي تلك الفترة كانت هناك قواعد عسكرية ومصانع حربية كثيرة متناثرة حول الطرق الرئيسية في مصر. لم تخف السلطات شيئاً. ربما كنوع من استعراض القوة. وعندما بدأنا في الاقتراب من إحدى القواعد العسكرية أخرجت أمي الكاميرا وأمرها أبي قائلاً:
"صوري . ياللا صوري . . صوري".
فقالت له وأصابعها ترتعش:
"سنذهب الى الجحيم بسببك".
وحركت أمي الجاكيت المعلق على النافذة وبدأت في التصوير، وامتلأت السيارة الصغيرة بصرخاتها الممزوجة بالخوف. فأجابها أبي بنفس اللهجة:
"هذه نهايتنا".
واستمرت أمي في احتجاجها قائلة: 
"سنذهب الى السجن".
وفي النهاية نظر أبي اليها بعيون متوسلة:
"عدة صور أخرى. . فقط عدة صور أخرى".

وحاول "محمد" أن يسأل ما الذي يحدث لكن الرد الذي تلقاه كان "اسكت" فلم نسأل أية أسئلة أخرى بعد ذلك.

عدنا للبيت سعداء في ذلك اليوم. وعلى الفور أغلق أبي حجرته على نفسه وبعد فترة طويلة خرج وعانق أمي وقال لها:
"يا حبيبتي لقد قمت بالتقاط صور رائعة للغاية".
وبكت أمي وقالت له: 
"الى هنا يجب أن نشرح الأمر للأولاد".
وكنا ما زلنا في صدمة وغير مدركين لهذه الجلبة التي تحدث.

وتحولت الرحلات الأسرية في أنحاء مصر الى روتين. . وكنا نخرج في نهاية كل أسبوع وكنا نسافر الى الأقصر، وأسوان، ليس هناك مكان لم نذهب اليه.. وأحياناً كان أبي يحصل على إجازة في وسط الأسبوع وكنا نسافر لعدة أيام. . وقد صورت قواعد ومنشآت عسكرية في مصر. . وكان أبي يسجل عدد الكيلو مترات في الطريق. . وبذلك يحدد موقع المصانع والقواعد العسكرية. . وكنا نحن الأولاد أفضل تغطية".

ضمان الولاء

تعددت زيارات ابراهيم وانشراح الى روما. . بعضها كان باستدعاء من الموساد.. والبعض الآخر كانت لاستثمار عشرات الآلاف من الدولارات التي حصلوا عليها من جراء عملهما في التجسس.

وفي إحدى هذه الزيارات.. قررا إشراك ولديهما لزيادة الدخل بتوسع حجم النشاط. . ولم يكن من الصعب عليهما تنفيذ ما اتفقا عليه..

يقول الابن عادل في حديثه المنشور بجريدة معاريف:
"عاد أبي وأمي ذات مساء من روما يحملان لنا الملابس الأنيقة والهدايا. . وأحسست من خلال نظراتهما لبعضيهما أن هناك أمراً ما يجري الترتيب له وعرفت الحقيقة المرة عندما أجلسني أبي قبالته أنا وأخويّ وقال في حسم:

مررنا كثيراً بظروف سيئة.. لم نكن نملك أثناءها ثمن رغيف الخبز.. أو حفنة من الملح.. والآن نعيش جميعاً في رغد من العيش. . ويسكن حوالينا أولاد في عمركم يحيون جوعى كالعبيد. . أما أنتم فتنعمون بكل شيء كالملوك. ولم تسألوني يوماً من أين جئت بكل هذا.. ؟

إن عملي في الحكومة .. وتجارتي أنا وأمكن وشقائي طوال تلك السنوات لم يكن هو سبب النعيم الذي نحن جميعاً الآن. . 
والحقيقة .. أن هناك أناساً يحبوننا للغاية.. وهم هؤلاء الذين يرسلون لنا الهدايا والمال. . وبفضلهم لدينا طعام طيب وملابس جميلة.. إنهم الاسرائيليون. . وهم الذين أنقذوا حياتنا من الجوع والضياع. . وأمنوا لنا مستقبلاً مضموناً يحسدنا عليه كل من نعرفهم.

حدث ذلك في صيف 1971، وكنت وقتها في الثالثة عشر من عمري، وكان أخي نبيل يكبرني بعامين تقريباً وأخي محمد بعام واحد.

وكطفل . . لم أعر الأمر أهمية خاصة . . لحقيقة أن أبي "يعمل" مع الاسرائيليين.. ومثل كل الأولاد. . كنت قد كبرت وتربيت على كراهية اليهود. . لكن في البيت تلقيت تربية أخرى . . فقد عرفت أن الاسرائيليين هم المسؤولون عن الطعام الذي آكله. . وعن الملابس الجديدة التي أرتديها. . وعن الهدايا التي أتلقاها. . لذلك .. سعدت لأنني كنت محظوظاً.

وكلما كبرت .. بدأت أدرك معنى "عمل" أبي .. وبدأ الخوف ينخر أكثر وأكثر في عظامي. . فقد كانت كماشة من الموت تطبق علينا. . وكفتى بالغ أدركت أنهم لو ضبطونا سيتم شنقنا.. من ناحية أخرى كان الخوف من حياة الفقر يصيبني بالشلل. . فقد كنت ملكاً لديه كل شيء".

هكذا انخرطت الأسرة كلها في التجسس. . وأصرت انشراح على الانتقال من الحي الشعبي الفقير الى آخر رقياً وثراء. . وعندما عارض زوجها قالت له:
دعنا نستمتع بالحياة فربما ضبطونا.

وفي النهاية انتقلوا الى فيلا فاخرة بمدينة نصر.. ونقل نبيل ومحمد وعادل مدارسهم الى الحي الراقي الجديد.

احتفظ ابراهيم شاهين بعلاقاته القديمة وأقام أخرى جديدة. . وامتلأ البيت مرة أخرى بالأصدقاء من رجال الجيش والطيارين. . وتحول أولاده الى جواسيس صغار يتنافسون على جلب المعلومات من زملائهم أبناء الضباط في المدرسة والشارع. . ومناوبة الحراسة ريثما ينتهي أباهم من تحميض الأفلام. . فكان نبيل يتولى المراقبة من الخارج. . وعادل من داخل البيت . . وحصل نبيل على أدوار أكثر جدية.. فكان أبوه يسمح له بكتابة الرسائل بالحبر السري وتظهيرها. . وصياغة التقارير وتحميض الصور.

وذات مساء بينما هم جميعاً أمام التليفزيون . . عرض فجأة فيلم تسجيلي عن أحد الجواسيس الذي انتهى الأمر بإعدامه شنقاً.. وطوال وقت عرض الفيلم انتابتهم حالة صمت تضج بالرعب والفزع. . واستمروا على تلك الحال لأسابيع طويلة.. امتنعوا خلالها عن كتابة التقارير أو الرسائل. . حتى تضخم لديهم الخوف وأصيبوا بالصداع المستمر.. ومرض ابراهيم فاضطرت انشراح للسفر وحدها الى روما تحمل العديد من الأفلام. . خبأتها داخل مشغولات خشبية.

كانت الرحلة الى روما منفثاً ضرورياً للخروج من أزمتها النفسية السيئة.. وفي الوقت نفسه لتطلب من رجال الموساد السماح لهم بالتوقف عن العمل. . فلما التقت بأبو يعقوب ضابط الموساد الداهية. . قصت عليه معاناتهم جميعاً ومدى الخوف الذي يسيطر على أعصابهم.. فطمأنها الضابط ووعدها بعرض الأمر على الرئاسة في تل أبيب.. وصحبها الى ناد ليلي فرقصت وشربت لتنسى همومها.. وعادت معه آخر الليل ثملة لا تعي ما حولها.. وفي الصباح وجدت نفسها عارية بين أحضانه فبكت. . ومع أحضانه الدفيئة تكرر المشهد وهي بكامل وعيها.. فذاقت للجنس طعماً جديداً لا تعرفه.. ولم تتذوقه مع زوجها الذي انشغل عنها ولم يعد يهتم بها. . بعدها عادت الى القاهرة تحمل آلاف الدولارات. وكانت قبلما يفترقا في روما قد طلبت منه أن يرسل في طلبها بمفردها في المرات القادمة.

هكذا. لقد نسيت انشراح رغبتها في اعتزال الجاسوسية. . واستمرأت مذاقات اللذة الجامحة مع ضابط الموساد الذي لم يبخل عليها بفحولته المغلفة بالحنان. . وبالرغم من أن ما حدث يخالف وظيفة ضابط المخابرات ومهامه. . إلا أنه ما لجأ الى ذلك سوى لرغبته في احتوائها. . وضمان ولائها لإسرائيل.

وفي آخر سبتمبر 1973 كانت انشراح بمفردها في رحلة أخرى الى روما .. فاستقبلها أبو يعقوب المسؤول عن توجييها واستلام التقارير والأفلام منها. لذلك فقد كان عليه أن يسارع بمغادرة بئر السبع الى اللد ثم روما في كل مرة تطير فيها انشراح خارج القاهرة. وفي ذات الوقت كان الضابط الاسرائيلي مكلف بألا يتعدى أية حدود مع الجاسوسة المصرية طالما رغبت هي في ذلك. . لكن ولأن انشراح كانت من النوع الحار لم تجد غضاضة في أن تتغمس في بحور اللذة لا تريد الطفو على السطح أبداً. . حتى فاجأها أبو يعقوب بنبأ هجوم الجيش المصري والسوري على إسرائيل. . وأن احتمال القضاء على دولة اليهود أصبح وشيطاً. كان يقول لها ذلك وهو يبكي ويرتعد جسده انفعالاً.. فأخذت تواسيه وتبكي لأجله ولأجل إسرائيل. . الدولة الصغيرة التي يسعى العرب لتدميرها (!!).

وفي أبريل 1974 اقترحت إنشراح على أسرتها السفر الى تركيا للسياحة.. وبينما هم في أنقرة اتصل بهم أبو يعقوب وطلب من ابراهيم أن يسافر الى أثينا لمقابلته. ومن هناك سافر الى إسرائيل. وفي مبنى المخابرات الاسرائيلية سألوه: 
كيف لم تتبين الاستعدادات للحرب في مصر؟

فأجابهم: 
لم يكن هناك إنسان قط يستطيع أن يتبين أية استعدادات. فبعض معارفي وأقاربي من ضباط القوات المسلحة تقدموا بطلبات لزيارة الكعبة للعمرة.

وأضاف ابراهيم: 
  في حالة ما إذا كنت قد علمت بنية الحرب فكيف أتصل بكم . .؟ فالخطابات تأخذ وقتاً طويلاً وهي وسيلة الاتصال الوحيدة المتاحة.

وبعد اجتماع مطول قرر قادة الموساد تسليم ابراهيم أحدث جهاز إرسال لاسلكي في العالم يتعدى ثمنه المائة ألف دولار. فلقد كانت لديهم مخاوف تجاه الفريق سع الدين الشاذلي الذي يريد تصعيد الحرب. . والوصول الى أبعد مدى في سيناء مهما كانت النتائج. . عكس السادات الذي كان يريدها حرباً محدودة.

دُرب ابراهيم لمدة ثلاثة أيام على كيفية استخدام الجهاز. . وعندما تخوف من حمله معه الى القاهرة.. عرضوا عليه أن يذهب الى الكيلو 108 طريق القاهرة السويس الصحراوي. وهناك سيجد فنطاس مياه كبيرة مثقوب وغير صالح للاستخدام. . وخلفه جدار أسمنتي مهدم عليه أن يحفر في منتصفه لمسافة نصف المتر ليجد الجهاز مدفوناً. وأخبره ضابط الموساد الكبير أن راتبه قد تضاعف، وأن له مكافأة مليون دولار إذا ما أرسل للإسرائيليين عن يقين بميعاد حرب قادمة.

عاد ابراهيم الى أثينا ثم أنقره حيث تنتظره الأسرة. . فقضوا أوقاتاً جميلة يستمتعون بالمال الحرام وبثمن خيانتهم.

نهاية كل خائن

عندما رجعوا الى القاهرة استقلوا السيارة الى الكيلو 108 وغادرت انشراح السيارة وبيدها معول صغير. .وظلت تحفر الى أن أخرجت الجهاز. . فنادت على ابنها عادل الذي عاونها وحمله الى السيارة ملفوفاً في عدة أكياس بلاستيكية. . وعندما ذهبوا بالجهاز الى المنزل أراد ابراهيم تجربته بإرسال أولى برقياته فلم يتمكن من إكمال رسالته.. بعدما تبين له أن مفتاح التشغيل أصيب بعطل (ربما نتيجة الحفر بالمعول).

حزن الجميع. . لكن انشراح عرضت السفر لإسرائيل لإحضار مفتاح جديد.. وسافرت بالفعل يوم 26 يوليو 1974 ففوجئ بها أبو يعقوب ودهش لجرأتها. . وأراد الاحتفاء بها فأقام حفلاً صاخباً ماجناً على شرفها انتهى بليلة حمراء. . فأمتعت جسدها المتعطش لفحولة أبو يعقوب. . وأرقها الابتعاد عنه والحرمان من خبراته المذهلة وتفننه في إشباعها، ومنحها مكافأة لها 2500 دولار مع زيادة الراتب للمرة الثالثة الى 1500 دولار شهرياً (كان مرتب الموظف الجامعي حينذاك حوالي 17 جنيهاً).

وأثناء وجود انشراح في اسرائيل تائهة بين أحضان ضابط الموساد، كانت هناك مفاجأة خطيرة تنتظرها في القاهرة فعندما كان ابراهيم يحاول إرسال أولى برقياته الى إسرائيل بواسطة الجهاز – استطاعت المخابرات المصرية التقاط ذبذبات الجهاز بواسطة اختراع سوفييتي متطور جداً اسمه (صائد الموجات) وقامت القوات بتمشيط المنطقة بالكامل بحثاً عن هذا الجاسوس. ومع محاولة تجربة الجهاز للمرة الثانية أمكن الوصول لإبراهيم بسهولة.

وفي فجر 5 أغسطس 1974 كانت قوة من جهاز المخابرات المصرية تقف على رأس ابراهيم النائم في سريره. استيقظ مذعوراً وفي الحال دون أن توجه اليه كلمة واحدة في هلع:

أنا غلطان . . أنا ندمان .. الجوع كان السبب . . النكسة كانت السبب. . اليهود جوعوني واشتروني بالدقيق والشاي.

ولما فتشوا البيت عثروا على جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة. . والتزم ابراهيم الصمت. . وكان بدنه كله يرتجف. . سحبوه في هدوء للتحقيق معه في مبنى المخابرات العامة، بينما بقيت قوة من رجال المخابرات في المنزل مع أولاده الثلاثة تنتظر وصول انشراح، تأكل وتشرب وتنام دون أن يحس بهم أحد.

وعلى طائرة أليطاليا رحلة 791 في 24 أغسطس 1974، وصلت انشراح الى مطار القاهرة الدولي قادمة من روما بعد شهر كامل بعيداً عن مصر، تدفع أمامها عربة تزدحم بحقائب الملابس والهدايا، ونظرت حولها تبحث عن زوجها فلم تجده، فاستقلت تاكسياً الى المنزل وهي في قمة الغيظ. . وعندما همت بفتح الباب اقشعر جسدها فجأة، فدفعت بالباب لا تكترث. . لكنها وقفت بلا حراك. . وبالت على نفسها عندما تقدم أحدهم. . وأمسك بحقيبة يدها وأخرج منها مفتاحين للجهاز اللاسلكي بدلاً من مفتاح واحد. وكانت بالحقيبة عدة آلاف من الدولارات دسها الضابط كما كانت .. وتناول القيد الحديدي من زميله وانخرست الكلمات على لسانها فكانت تتمتم وتهذي بكلمات غير مفهومة . . وقادوها مع ولديها الى مبنى المخابرات وهناك جرى التحقيق مع الأسرة كلها.

ولما كانت المخابرات الاسرائيلية لا تعلم بأمر القبض على أسرة الجواسيس. . وتنتظر في ذات الوقت الرسالة التي سيبعث بها ابراهيم ليطمئنوا على كفاءة عمل الجهاز . . فوجئت الموساد بالرسالة.. لم تكن بالطبع من ابراهيم بل أرسلتها المخابرات المصرية.

"أوقفوا رسائلكم مساء كل أحد. . لقد سقط جاسوسكم وزوجته وأولاده، وقد وصلتنا آخر رسائلكم بالجهاز في الساعة السابعة مساء الأربعاء الماضي".

وفي 25 نوفمبر 1974 صدر الحكم بإعدام انشراح وزوجها شنقاً، والسجن 5 سنوات للابن نبيل وتحويل محمد وعادل لمحكمة الأحداث.

وفي 16 يناير 1977 سيق ابراهيم الى سجن الاستئناف بالقاهرة لتنفيذ الحكم، كان لا يقو على المشي. . والى حجرة الاعدام كان يجره اثنان من الجنود وساقاه تزحفان خلفه بينما هو يضحك في هستيريا ثم يبكي. . وبعدما تيقن من أنه سوف يُعدم أخذ يردد آيات من القرآن الكريم بكلمات غير مفهومة ثم صاح في انهيار: سامحني يا رب. . وتلا عليه مأمور السجن منطوق الحكم .. ثم ردد الشهادتين وراء واعظ السجن . . عندئذ عرضوا عليه آخر طلب له قبل إعدامه فطلب سيجارة.. وبعد أن انتهى من تدخينها جروه جراً الى داخل غرفة الإعدام . . فقام عشماوي بتقييد يديه خلف ظهره. . ثم ألبسه الكيس الأسود ووضع الحبل في رقبته . . وشد ذراعاً فانفتحت طاقة جهنم تحت قدميه. . وظل الجسد معلقاً في الهواء يتأرجح الى أن همد وسكن. . واستمر النبض ثلاث دقائق وعشر ثوان بعد التنفيذ . . حتى أعلن طبيب السجن وفاة الجاسوس الذي ظل يتعامل مع الموساد طوال سبع سنوات.

أما انشراح فقد ترددت الأنباء في حينها عن شنقها هي الأخرى .. ولكن في 26 نوفمبر 1989 نشرت صحيفة "حداشوت" الاسرائيلية قصة تجسس ابراهيم على صفحاتها الأولى . . وذكرت الصحيفة أن ضغوطاً مورست على الرئيس السادات لتأجيل إعدام انشراح بأمر شخصي منه. . ثم أصدر بعد ذلك عفواً رئاسياً عنها .. وتمكنت انشراح (في صفقة لم تعلن عن تفاصيلها) من دخول اسرائيل مع أولادها الثلاثة. . حيث حصلوا جميعاً على الجنسية الاسرائلية واعتنقوا الديانة اليهودية.. وبدلوا اسم شاهين الى (بن ديفيد) واسم انشراح الى (دينا بن ديفيد) وعادل الى (رافي) ونبيل الى (يوسي) ومحمد الى (حاييم) . . !!!

رافي بن ديفيد

(1) وعن اللحظات الأخيرة التي وضعت نهاية أسرة الجواسيس. . يقول أصغر الأبناء – عادل – في حديثه لصحيفة معاريف الاسرائيلية [1]

بعد حرب 73 قرر والدي نهائياً أن تكون هذه هي السنة الأخيرة لهم في أعمال التجسس. وكانت الخطة تقضي ببيع البيت والممتلكات والسفر للولايات المتحدة .. وأنا كفتى في الخامسة عشرة من عمره آنذاك فكرت قطعاً في المستقبل .. ووعدني والدي بإرسالي للدراسة في أفضل كلية هناك. وبعد ان اتخذوا قراراً بأن تكون هذه هي السنة الأخيرة لنا في مصر شعرنا أننا أكثر راحة وأزيح حجر ثقيل من على صدورنا.

لكن كان هناك حادثان في تلك السنة هزا ثقتنا. فقد أراد والدي تجنيد شقيقه أيضاً. وأتذكر النقاشات التي دارت بين أمي وأبي حول ذلك. . فقد خافت أمي من أن يسلمنا شقيق والدي .. وحتى اليوم لست أعرف هل عرف بذلك الأمر أم لا؟

والحادث الآخر كان بعد الحرب عندما قمنا بزيارة الأخوال .. وتشاجرت شقيقة أمي "فتحية" مع ابنتها نجوى. . وكانت هناك صرخات عالية في البيت وحاول أبي التدخل. . فأغلقت نجوى باب دورة المياة عليها وصرخت في أبي:

"لماذا تتدخل؟ فالجميع يعرف أنك تعمل مع الاسرائيليين".

فدخل أبي وراءها وصفعها، وحتى اليوم لا أعرف من أين عرفت . . وشعرنا أن الأمور خرجت عن السيطرة.
وفي إحدى المرات التي سافرت فيها أمي الى روماكي تحصل على قطع غيار لجهاز البث الذي عطب .. عاد أبي من العمل شاحباً، وجلس على أحد المقاعد ونظر لي وهمس:

"أعتقد أنهم قد تمكنوا مني".

وصمتنا ، وأضاف:
"لقد سألوا عني في العمل".

فبعد سبع سنوات من التجسس كان لأبي حواس حادة، وعندما قال لنا أنهم قد تمكنوا منه كان قد عرف ذلك عن يقين.

كان لدينا في البيت حوالي 6 شرائط أفلام، وبدأ أبي في تمزيقها وحرقها وحرق الخطابات. . وأدركنا أن الحكاية قد انتهت. . وحتى اليوم لست أدري لماذا لم يأخذنا أبي ويهرب ولماذا لم نطلب منه الهرب؟! وأنا أسترجع تلك الأيام في مخي حتى اليوم لا أفهم لماذا ظللنا في البيت؟

وفي صباح أحد الأيام استيقظنا على صوت طرقات قوية على الباب، وفي المدخل وقف ثلاثة من الرجال وسألوا أين أبي؟ فقلت لهم إنه في العمل، فدخلوا وطلبوا انتظاره. جلس اثنان منهم في الصالون والآخر أخذ مقعداً وجلس بجانب الباب. . وقلت له:

"سيدي من فضلك أدخل الى الصالون".

فأجابني قائلاً:

"أشعر بالراحة هنا". فتبادلت أنا وأخي نظرات فزعة، وحاول نبيل الدخول الى حجرة أبي كي يدمر الوثائق التي كانت هناك . . لكن الأدراج كانت مقفلة وكانت المفاتيح مع أبي، فتبادلنا نظرات يائسة ولم نعرف ما يمكن أن نفعله.

مرت ساعة بدت كأنها الدهر ثم سمعنا أصوات سيارات. واقترب من البيت موكب يتكون من عشر سيارات وكانت سيارة أبي تسير ببطء في المنتصف، وتوقفوا أمام المنزل، واقتحم البيت عشرات الجنود ورجال المخابرات وأدخلوا أبي معهم. . وبدأو في قلب البيت. . ولا يمكن وصف صرخات الفرحة التي خرجت من الجنود عندما وجدوا جهاز الارسال وهنأوا بعضهم قائلين "مبروك" وأحنى أبي رأسه وهمس لنا: "آسف يا أولادي".

ويكمل عادل الذي غير اسمه الى (رافي بن ديفيد) حسب الرواية الاسرائيلية:

بعد القبض على والدي تركتنا السلطات المصرية وكنا في حالة يرثى لها. . وأردت البكاء والصراخ ولم أستطع. . فقد انتهى العالم بالنسبة لي. . وبعد ساعات تحدث أخي محمد للمرة الأولى "ماذا عن أمي؟" يجب أن نحكي لها ما حدث.

وفي الرابع والعشرين من أغسطس عام 1974، في ساعات الصباح المبكر، وصلت أمي الى البيت، وفي جيب سري بالحقيبة كانت تخفي قطع غيار الجهاز. . وكانت قد اندهشت من عدم انتظار أبي لها في المطار، وسألت عند دخولها: "أين أبوكم؟" وكان العناق بيننا بارداً فقلت لقد سافر أبي الى الريف، فهكذا طلب منا رجال المخابرات المصرية إخبارها.

وفهمت أمي على الفور فلا يمكن الكذب على من يحيا في ظل الموت، فاقتحمت حجرة النوم للبحث عن الجهاز هناك ولم يكن الجهاز موجوداً، فجرت نحو الحمام كي تتخلص من المواد التي تحملها. لكن كان قد فات أوان ذلك، فقد اقتحم البيت اثنان من رجال المخابرات ، قال لها أحدهما:
"حمداً لله على سلامتك يا دنيا"

فتظاهرت أمي بالبراءة وقالت:

"من هي دنيا؟ أنا انشراح". . .

قالت ذلك بثقة فابتسم رجل المخابرات في رضا:
"لقد اعترف زوجك بكل شيء".

ذهبنا الى مبنى المخابرات وأمام المبنى الذي كنت أعرفه جيداً "فقد التقطنا له بعض الصور" استقبلني رئيس النيابة العسكرية محمد السبكي وقال لي:
"سترى أبويك قريباً".

وفي التحقيق الأول معي أنكرت وقلت إنني لا أعرف شيئاً فأخذني المحقق الى الفناء.

معلومات عن ميدان التحرير
ميدان التحرير

 

ميدان التحرير، أكبر ميادين مدينة القاهرة في مصر، سمي في بداية إنشائه باسم ميدان الإسماعيلية، نسبة للخديوي إسماعيل، ثم تغير الاسم إلى "ميدان التحرير"؛ نسبة إلى التحرر من الاستعمار في ثورة 1919 ثم ترسخ الاسم رسميا في ثورة 23 يوليو عام 1952.

يحاكي الميدان في تصميمه ميدان شارل ديجول الذي يحوي قوس النصر في العاصمة الفرنسية پاريس.

ــــــــــــــــــ

كان الخديوي إسماعيل مغرماً بالعاصمة الفرنسية پاريس، بل وأراد تخطيط القاهرة على غرار پاريس، وإنشاء ميدان يشبه ميدان الشانزلزيه، وبالفعل كانت القاهرة الخديوية والتي تتلاقى شوارعها في ميدان واسع كان اسمه ميدان الإسماعيلية نسبة للخديوي إسماعيل، والذي أصبح اسمه بعد ذلك ميدان التحرير.

عام 1904 أثار الصحفيين والمهندسين المعماريين والرأي العام مسألة موقع ثكنات قصر النيل بحجة أنها لم يعد مناسباً أن يكون رمز الاحتلال الإنگليزي قريباً جداً من المدينة وبجوار رمز الحضارة المصرية القديمة المتحف المصري وقد وضع موسى قطاوي باشا تخطيطاً للمنطقة

حيث يتم فيه هدم ثكنات قصر النيل وتقام مجموعات سكنية فاخرة تحيط بالمتحف المصري وقد وضع فى تخطيطه أن الشارع الجديد شارع الخديوي إسماعيل سيؤدي إلى مدخل المتحف وعلى جانبيه ساحات متعددة بها تماثيل فرعونية تحدد معالم هذا الشارع كانت المباني في تخطيط قطاوي باشا تصل إلى شاطئ النيل وتقوم على تخيل المنطقة بدون الثكنات البريطانية.

وقد حاول تخطيط قطاوي باشا حل مسألتين رئيسيتين هما خلق البيئة الملائمة للمتحف المصري والاستمرار في النسيج العمراني للمنطقة الاسماعيلية لملء ساحة المدينة حتى هذا الوقت أي المنطقة الفراغ والتى كانت تحتل موقعاً رئيسياً في المدينة ولم يعني هذا التخطيط بانشاء المناطق العامة المفتوحة فقد راعى التخطيط وضعها مع الساحات والحدائق في أماكن أخرى من القاهرة وتخطيط قطاوى باشا للميدان سنة 1904.

ونجد فيه كوبري قصر النيل من ناحية النيل والشوارع القادمة من قصر عابدين إلى الميدان ولكن عيبه أنه تخطيط لتحويل الميدان إلى منطقة سكنية في معظمه وعلى الرغم من الجاذبية فى خطة قطاوي باشا لم تكن هناك أية نية لهدم الثكنات لأن قوات الاحتلال لن ترضى بهذا أبداً.

في مارس 1933 تقدم حسين باشا واصف وزير الأشغال العمومية بخطة لتطوير ميدان الإسماعيلية إلى حسين باشا واصف وزير الأشغال العمومية من محمد فهمي الأمير مهندس بندر المنصورة، وخريج هندسة ليون. تتضمن الاقتراحات وضع مسلة وعدد من التماثيل الفرعونية بقلب الميدان. كما تتضمن وجود مسرح وسينماتوغراف مع متحف صغير.

ومع ذلك بعد تنفيذ معاهدة 1936 وبعد خروج القوات البريطانية من المنطقة وأصبح هدم هذا المبنى الضخم وشيكاً ارتفعت الحماسة في وسائل الإعلام والصحفيين والمهندسين المعماريين نحو ايجاد أفكار عما يجب فعله مع المنطقة وتبارى الجميع فى تقديم الاقتراحات وكان أهمها وأكثرها قبولاً ما نشره محمد ذو الفقار بك من تخطيط لإعادة تصميم منطقة قصر النيل وميدان الإسماعيلية فى مجلة المصور في أبريل سنة 1947.

وتركز تخطيطه فى أن يصبح ميدان الإسماعيلية المركز الثقافي والسياسي للمدينة وترجم هذا من خلال تجميع المباني الإدارية لمختلف الوزارات والادارات الحكومية وعدد من المتاحف بالإضافة إلى مجموعة من التماثيل التذكارية للعائلة العلويه وتحيط بها الحدائق العامة الواسعة وتخطيط محمد ذو الفقار بك الذى نشرتة المصور في أبريل سنة 1947 وهو تخطيط أكثر من رائع وكان سينقل مصر نقلة حضارية كبيرة.

ولكن انشغال حكومة النقراشي باشا في العديد من الأزمات أهمها بوادر حرب 1948 أدى إلى أن يذهب هذا المشروع أدراج الرياح وعلاوة على ذلك تضمنت الخطة بناء برلمان جديد على غرار الكاپيتول فى العاصمة الأمريكية وكان البرلمان المقترح فى التخطيط يقع في موقع الثكنات البريطانية لتحل الهيئة التشريعية الدستورية في مصر محل موقع الاحتلال الأجنبي وهي نقطة في غاية الأهمية.

مع إعلان عناصرالتخطيط المقترح ذكر الوصف أن الحياه الرسمية والسياسية والحياة الثقافية في العاصمة ستكون موحدة في المركز الجديد لإعطاء السياح والزوار رؤية واضحة لمصر المدنية الحديثة وتراثها القديم ويمزج فى راحة بين الرقة والاصاله مع الحداثة والمدنيه وقد نشأت هذه الأفكار من الروح القومية المناهضة للاستعمار في ذلك الوقت ومرة أخرى لم تتحقق هذه الخطة بالكامل.

لكن نفذت عناصر ضئيلة منها مثل إنشاء بعض المساحات المفتوحة العامة ومبنى إداري مجمع التحرير ومن دواعى الأسف أن خطة محمد بك ذو الفقار لم ينفذ منها إلا مجمع التحرير فقط والذي أنشأ سنة 1951 وتكلف حوالى مليون ومائتي ألف جنية وكانت أول فكرة تنفذ في الشرق لتجميع الخدمات للمواطن في مبنى واحد وصممه المهندس محمد كمال إسماعيل وحصل على البكوية ونيشان النيل لانشائه عدة مبانى أخرى.

كما تم تجميل الميدان واقيمت له قاعدة رائعة من المرمر ليوضع عليها تمثال الخديوي إسماعيل الذي كان يصنع فى ايطاليا وانتهى صنعه بعد 23 يوليو 1962 ولذلك ظلت القاعدة خاوية حتى تم ازالته أثناء حفر مترو الأفاق، وتم هدم الثكنة لكن موقعها ظل شاغراً حتى بنى محلها مبنىى جامعة الدول العربية وفندقاً ومبنى أصبح مقرا للحزب الحاكم. بعد ثورة 23 يوليو مرة أخرى حدث تحول فى الوضع السياسي وتم تغيير اسم المنطقة التي تعرف باسم ميدان الخديوي إسماعيل فى أغسطس عام 1952 إلى ميدان الحرية ثم في 2 يوليو 1954، وفي اطار إزالة كل كل ما يمت للعائلة العلوية بصله تم تغيير مسميات 15 شارعاً ومن أهم شوارع القاهرة إلى أسماء تتماشى مع ثورة 1952 أصبحت منطقة ميدان الحرية تغير اسمها إلى ميدان التحرير وكانت محلاً للمسيرات السنوية للاحتفال.

وفي عام 1953 قام المهندس المعماري سيد كريم في وقت التحول الكبير في السياسة المصرية نشر تخطيطاً أملاً في التأثير على النظام الجديد ونشر في مجلته مجلة آل العمارة ومصر المعماري الرائدة إعادة تصميم منطقة ثكنات قصر السابقة دعى التخطيط لبناء فندق في موقع ثكنات قصر النيل مع كازينو يمتد إلى النيل وهدم للمتحف المصري واستبداله بمبنى متعدد المستويات قال أنه سيكون متحف الحضارة المصرية ومباني لوزارة الشؤون الخارجية وادارة الاذاعة والتلفزيون وأخيراً سلسلة من التماثيل تمجد ثورة 1952 ونصب تذكاري ضخم للجندي المجهول وقد صممه الفنان فتحي محمود ولكن رؤية كريم مثل آخرين قبله لم تنفذ أبداً.

رمزيته
ـــــــــــــــــــــ
رمز ميدان التحرير إلى حرية الشعوب وصمودها فشهد اول تحرر للمرأه في مصر عندما خلعت اليشمك في ميدان التحرير في ثورة 1919 فعرف منذ ذلك الوقت بالتحرير ولكنه لم يسمى التحرير رسمياً الا بعد ثورة 23 يوليو كما انه شهد عدة مواجهات بين المحتجين والقوات الأمنية منها أحداث ثورة 1919 وثورة الخبز في 18 و 19 من يناير عام 1977، ومنها أيضا ثورة 25 يناير عام 2011، وانتهت تلك الثورة إلى إسقاط النظام الحاكم للرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، والذي أصبح رمزا للمتظاهرين وصمودهم وحريتهم.

معالمه
ـــــــــــــــــــــ
توجد به العديد من الأماكن الشهيرة مثل:

المتحف المصري.
مجمع المصالح الحكومية المعروف اختصاراً بمجمع التحرير، والذي قام بتصميمه د.م محمد كمال إسماعيل.
القصر القديم لوزارة الخارجية المصرية.
جراج عمر مكرم (المكون من أربع طوابق تحت الأرض ويتكون سطحه من حديقة عامة يتوسطها تمثال عمر مكرم).
يتم حاليا إنشاء جراج التحرير أمام المتحف المصري لحل أزمة الإنتظار بالعاصمة.
يوجد بالميدان إحدى أكبر محطات مترو القاهرة الكبرى وهي محطة السادات والتي تضم الخط الأول والثاني معا.

صينية التحرير
ـــــــــــــــــــــ
في بداية الخمسينيات، كان ميدان التحرير يحتوي على قاعدة لتمثال لم يُوضع. كان من المقرر أن يثبت على القاعدة تمثال للخديوي إسماعيل، وذلك ضمن مشروع تحمس له الملك فاروق آنذاك للربط بين ميدان التحرير - الذى كان يعرف آنذاك بميدان الإسماعيلية - وميدان عابدين - حيث يوجد قصر عابدين المقر الرسمى للملك - من خلال توسيع الشارع الذى يربط بينها، وإقامة تمثال لوالده الملك فؤاد فى ميدان عابدين، وتمثال لجده الخديوي إسماعيل، فى ميدان الإسماعيلية، وبذلك يتم الربط بين الماضى والحاضر، والخديوي إسماعيل هو الذى أنشأ ميدان الإسماعيلية، وبنى قصر عابدين وابنه الملك فؤاد هو الذى أعاد تجديد كوبرى قصر النيل، وتم فى عهده تسوير قصر عابدين وهو ما يتيح للملك فاروق أن يطل على والده وجده وأن يذكر المصريين بما أدياه للوطن.[2]

ومع أن تمثال فؤاد كان قد أقيم بالفعل، ونصب فى ميدان عابدين، وأحيط بسواتر من الخيش، انتظاراً للانتهاء من نصب تمثال الخديو إسماعيل على القاعدة المخصصة له فى ميدان الإسماعيلية، إلا أن الأوضاع السياسية ما لبثت أن تغيرت فقامت ثورة 23 يوليو 1952، ليتوقف المشروعان، وبعد شهور من قيامها، أزيل تمثال الملك فؤاد من ميدان عابدين، الذى اتخذ منه قادة الثورة ساحة لإلقاء خطبهم، بينما ظلت قاعدة تمثال الخديو إسماعيل مكانها ورؤى الاحتفاظ بها، واتخذت لسنوات طويلة مكاناً لإضاءة شعلة التحرير التى كانت تصل من أسوان إلى القاهرة، فى أعياد الثورة من كل عام. وقيل أن الرئيس عبد الناصر يحتفظ بها لإقامة تمثال له وهو الاقتراح الذى تبناه الكاتب توفيق الحكيم بعد رحيله، لكن خلفه أنور السادات، لم يأخذ به وأصم أذنيه عن إقامة تمثال عبد الناصر، وقيل أنه احتفظ بالقاعدة لكى تكون قاعدة تمثال له، وهو ما طالب به بالفعل المتحمسون له من أركان دولته بعد رحيله، لكن محافظة القاهرة اكتفت بإطلاق اسمه على الميدان، الذى لا يزال اسمه هو ميدان أنور السادات - التحرير سابقاً. اللافت في هذا السياق أن المصريين لا يعترفون بالاسم المباركي لهذا الميدان وهو ميدان أنور السادات وهي التسمية التي اعتمدت لمحطة قطارات مترو الأنفاق بالمنطقة، حيث ظل الناس يطلقون عليه اسم ميدان التحرير وظل محتفظاً باسمه. وما كاد مشروع مترو الأنفاق يبدأ، حتى تطلب الأمر هدم القاعدة، ليختفى الجدل حول إعادة إقامتها والبحث عن صاحب التمثال الذى يعتليها.

أثناء ثورة 25 يناير أصبحت صينية التحرير بمثابة مقر لتمركز المعتصمين في ميدان التحرير، وفي 1 أكتوبر 2011، اعتصم المتظاهرون في الصينية رافعين أعلام مصر ومتخطين قوات الأمن الذين ركزوا جهدهم على حصارها. [4]

أهمية ميدان التحرير
ـــــــــــــــــــــ
برغم أن ميدان التحرير أكبر ميادين القاهرة ورغم أهميته إلا أنه لا يعد أهمها على الإطلاق فيسبقه من حيث الأهمية ميدان رمسيس لوجود محطة مصر فيه كذلك لوجود الموقف الأكثر اتساعا في العاصمة وكذلك لتفرع وسائل المواصلات منه، كذلك يأتي ميدان العتبة في الأهمية قبل ميدان التحرير وذلك كون ميدان العتبة المركز التجاري الأول في القاهرة.

شوارع تتفرع من ميدان التحرير
ـــــــــــــــــــــ
يعتبر ميدان التحرير من الميادين القليلة في القاهرة ذات التخطيط الجيد الفريد إذ يتفرع منه على شكل شعاع وإليه عدد ليس بالقليل من أهم شوارع وميادين العاصمة المصرية القاهرة نذكر منها:

شارع البستان الذي يوجد فيه أهم مراكز التسوق في وسط القاهرة بالإضافة إلى العديد من البنوك ومؤسسات الدولة مثل وكالة أنباء الشرق الأوسط التي تقع في تفرع شارع هدي شعراوي المتفرع من شارع البستان.
شارع محمد محمود البسيوني.
شارع طلعت حرب.
شارع التحرير.
شارع الفلكي.
شارع القصر العيني (والذي يضم مقر لتسع وزارات مصرية ويضم أيضا مجلسي الشعب والشورى).
ميدان طلعت حرب.
ميدان الشهيد عبد المنعم رياض.
ميدان محمد فريد.
شارع شامبليون.
شارع قصر النيل.

صور لميدان التحرير 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة لميدان التحرير 1896
صورة لميدان التحرير 1896
صورة ميدان التحرير أوائل القرن العشرين
ميدان التحرير 1920
ميدان التحرير 1920
ميدان التحرير عام 1963
ميدان التحرير عام 1963
صورة ميدان التحرير سنة 1975
صورة ميدان التحرير سنة 1975
كوبرى مشاه بميدان التحرير فى السبعينات
كوبرى مشاه بميدان التحرير فى السبعينات
صورة من 2000
صورة من 2000
صور ميدان التحرير اثناء ثورة 30 يونيو 2013
صور ميدان التحرير اثناء ثورة 30 يونيو 2013
صور ميدان التحرير اثناء ثورة 30 يونيو

ميدان التحرير عام 2021
ميدان التحرير عام 2021

سقطت مغشياً عليها. . وسقط الجنين . . وتكر السنون تطرحها تأكل فؤادها. . وعقلها. . وتلتهم جذور صبرها بلا هوادة. .

استغل هو معاناتها. . وضغط بقوة على براكين آلامها . . ففجرها. . وأشعل بداخلها ثورة من جنون غاضب .. متمرد، وصرخت: سأحرق قلوبهم وأنسف أفراحهم . . إنني أتشوق للعمل معكم بشرط ألا أتعرى . . أو أضاجع حيواناً منهم مهما كان مركزه.

هكذا بدأت "نورما عساف" في لبنان . .

رحلة الانتقام . . والثأر . . والكراهية .. !!

شبكات التعقب

عندما تتجسس المخابرات الاسرائيلية على الدول العربية، فهي إنما تسعى لمعرفة أدق الأسرار الحربية والسياسية والاقتصادية لتبني استراتيجيتها المختلفة. أما في لبنان، وفي حالة الجنوب اللبناني بالذات، فالوضع يختلف كل الاختلاف، إذ أنها تتعامل مع منظمات ثورية وجماعات فدائية دائمة التنقل والحركة، تخطط لعمليات هجومية وانتحارية فجائية يصعب رصد مقدماتها أو توقيتها، مما يشكل عبئاً ثقيلاً على القوات الإسرائيلية، التي تظل في حالة طوارئ مستمرة توقعاً لكل شيء.

لهذا سعت الموساد لتجنيد أكبر عدد من سكان القرى الحدودية لإمدادها بأخبار فورية عن الفدائيين، معتمدة في ذلك على أسلوبين من العمل التجسسي:

1- جاسوس يعمل منفرداً، موثوق في إخلاصه وصدق معلوماته وأخباره، غير مطالب بالبحث عن خونة آخرين لتكوين شبكة جاسوسية "وهو يختلف عن جاسوس المهمة الواحدة".

2- شبكة جاسوسية تضم أكثر من عميل في عدة مواقع.

والشبكة عادة ما تتكون إما عن طريق جاسوس ماهرة أعطى أمراً بتجنيد آخرين لمعاونته، وإما بإلحاقه تحت إشراف جاسوس آخر، أو شبكة مؤلفة سلفاً.

لقد انفردت لبنان – عن بقية الأقطار العربية بكثافة عدد الجواسيس داخل الشبكة الواحدة. فعندما ضبطت السلطات الأردنية إحدى شبكات الموساد، وتبين أن أعضاءها وصل عددهم لـ "37" جاسوساً، تملكنا العجب. لكن . . أن تسقط في لبنان أوائل العام 1999 شبكةواحدة مؤلفة من "200" عميل للموساد، فذلك هو الأعجب حقاً. . والدليل الذي لا يحمل تأويلاً على ازدهار النشاط التجسسي الإسرائيلي في لبنان . . مما يعطينا مؤشراً لدى الرعب الإسرائيلي والهلع من عمليات الفدائيين الفجائية، برغم وجود ثلاثة آلاف عميل يتألف منهم جيش لبنان الجنوبي.

لكل ذلك نخلص الى حقيقة جلية، أن الجاسوسية الإسرائيلية في لبنان هي عماد الأمن الذي تنشده، ومن هنا تتعامل الموساد مع ما بثته اللاسلكيات في لبنان بشكل مغاير تماماً لمثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى. إذ تتخذ الاستعدادات الأمنية الضرورية بمنتهى السرعة في سباق مع الزمن. فالتحركات الفدائية تتسم دائماً بسرعة الحركة والفعل. . ولا وقت للتريث ريثما يتأكد صحة البلاغ أو الخبر.

تماماً، عكس الشبكات في الدول العربية الأخرى التي لا تأخذ الموساد أخبارهم بمحمل الجد، إلا إذا جاء ما يؤكدها من خلال شبكة أخرى داخل القطر نفسه. لكن هناك حالات استثنائية جداً كانت فيها الموساد تثق في صدق المعلومة المبثوثة اليها دون أدنى مراجعة، للثقة العالية في مصدرها .

وفي القصص السابقة تعرفنا على العديد من حالات التجسس المنفرد. . ونتعرف من خلال هذه القصة على نموذج آخر لأساليب التجسس الإسرائيلي، وهو نظام شبكة الجاسوسية المكلفة بتتبع الفدائيين والتغلغل في مهارة داخل نسيجهم للحد من عملياتهم وتسللهم عبر الحدود، فتلك هي وظيفتها الأساسية، بعيداً عن القيام بأعمال تخريبية في لبنان، أو ترويج الإشاعات، أو المساعدة في تسهيل مهام الاغتيالات لزعماء الثورة الفلسطينية.

راقصة المونتريكال

بداية . . أشير الى أن المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني بالذات لم تتوقف أوتكف عن إنهاك إسرائيل منذ قيامها، وكان ذلك من خلال عمليات محدودة وغير منظمة. استمر هذا الوضع حتى أعلنت منظمة التحرير عن نفسها عام 1965، فأشتعلت المقاومة، وتضاعفت حدتها ضراوة بعد نكسة يونيو 1967، ثم ازدادت اشتعالاً بعد أحداث أيلول الأسود 1970، وطرد المقاومة من الأردن الى لبنان. . فقد تصاعدت العمليات الفدائية بشكل انتقامي متصل ومنظم، لا يهدأ سواء عبر الحدود، أو بدفع لنشات الفدائيين عبر البحر المتوسط للمدن الساحلية والمستعمرات الإسرائيلية، والقيام بعمليات غاية في الجرأة والجسارة داخل الأرض المحتلة.

كان الأمر بحق مرعباً في إسرائيل، ولهذا لجأت الموساد لأسلحتها الفتاكة المعتادة – الجنس والمال – للحد من هجمات الفدائيين، وبرعت في تصيد عدد كبير من الخونة لإمدادها بتحركاتهم وخططهم ونواياهم. وكان من بين هؤلاء الخونة "أحمد ضاهر" 37 عاماً من بلدة "عيترون" الواقعة على بعد خمسة كيلو مترات من الحدود الإسرائيلية جنوبي لبنان.

فمن هو أحمد ضاهر؟ وما الظروف التي دفعت به الى السقوط في مصيدة الخيانة؟ وكيف استطاع تأليف شبكته الجاسوسية؟

إنها قصة طويلة مثيرة بدأت أحداثها في بيروت عام 1969.. عندما قرر أحمد ضاهر فجأة أن يغلق دكان بقالته في "عيترون" ويهجر حياة البساطة الى أضواء بيروت، يراوده حلم الشهرة في عالم الغناء والطرب.

وما أن احتوته المدينة الجميلة الساهرة، حتى اجتاحه إحساس جميل بمستقبل مشرق ينتظره. . وشعور بالأمان طالما افتقده منذ أنهى الخدمة في الجيش اللبناني – كرقيب متطوع – إثر حادث سيارة ترك بصماته بعظام ساعده الأيمن. واستطاع وقتها، بالمكافأة المادية التي حصل عليها، أن يفتتح محلاً بسيطاً للبقالة في قريته.

إلا أن مطالب أمه العجوز وزوجته رباب وأولاده الأربعة كانت أكبر من دخل دكانه، مضافاً اليها مجموع ما ينفقه على شراء اسطوانات الأغاني والمجلات الفنية، التي تقربه دائماً من عالمه الذي يسبح فيه خلال إرهاصاته ليل نهار.

وجمعته هواية الفن بشاعر حالم اسمه "كمال المحمودي"، دأت على السهر معه، وانتقاء ما يصبح من أشعاره للغناء. فامتزجا معاً يحلمان بالشهرة وبالمجد، ويبعثران أحلامهما عند انقضاض الواقع، ولما سافر كمال المحمودي الى بيروت يبحث عن فرصة تحقق لهما الأمل، كتب الى صاحبه ليلحق به. وأقاما معاً بشقة صغيرة تتألف من حجرة واحدة في حي بئر العبد، الواقع ما بين المطار الدولي جنوباً والمرفأ من الشمال، يفصلهما عن حي الحمراء الشهير المدينة الرياضية، وصبرا، والمزرعة، وتل الخياط.

مسافة كبيرة يقطعانها سيراً على الأقدام في أحيان كثيرة، يحملان معاناة المجد والحياة والأضواء التي أثقلتهما وأنهكتهما. فرحل الشاعر يائساً الى باريس، وبقي أحمد ضاهر وحده ببيروت يصارع اليأس والجوع والتعب.

أربعة أشهر وهوينقب عن فرصة للغناء في كباريهات المدينة، تعرف خلالها بفتاة ترقص الدبكة في ملهى "مونتريكال" في "جونية" (1) وقدمته لإدارة الملهى كمطرب من الجنوب، لكنهم عرضوا عليه أن يعمل كبودي جارد، وأمام حاجته الى المال، وافق على العرق، وظل يعاني صراعاً داخلياً مريراً أوصله الى درجة السآمة.

فوار أنطلياس

في إحدى الليالي بينما يجتر حاله، خرجت إحدى الزبونات تترنح لا تدري أين أوقفت سيارتها. فساعدها في البحث عنها لكنها لم تكن بحالة تسمح لها بالقيادة ليلاً، وأجابها بنعم عندما سألته عما إذا كان بمقدوره القيادة وتوصيلها لمنزلها.

وفي السيارة تأمل لأول مرة السيدة الحسناء التي عن يمينه، وقد انحسر ثوبها الناعم القصير عن ثلثي ساقيها، وارتعش ثدياها النافران في تمرد سافر لاهتزازات الطريق، فأربكته لفتتها وقد قرأت في عينيه أفكاره، وسألته بصوت خفيض عذب مثير: 
بيظهر نظرك ممتاز.

أجابها وقد تمكن منه الإعجاب: 
يا لطيف بحالي، صوتك مثل اللوز الفرك، بيقرش قرش.

ضحكت في تأوه لذيذ وهي تقول:  شو؟ تغنيلي قصيدة؟

تذكر في الحال حلمه الضائع، فنسى جسدها المرمري المثير وانطلق يحدثها عن أمانيه، وحلم الهجرة الى الشمال أملاً في الغناء. وانتبهت الى حديثه كأنما أفاقت من سكرها قليلاً وقد أخذ يشدو بصوت رخيم:

وكم أهوى سواد الليل في العينين
حورية
وكم أهوى . . جنون الوهم . . أحياه
بأشواقي البدائية . . 
عن الدنيا حكايات . . 
عن الأنثى . . 
عشيقاتي
الأساطير الخرافية

صاحت في دهشة: 
صوتك شو حلو. . إنشالله بتغني في "الكوت دو روا" ، ما تحير بالك.

وبدلاً من أن يواصل الى بيروت – حيث تسكن في حي الأوزاعي الراقي – أمرته أن ينحرف بالسيارة حتى وصل الى مفرق ضيق دخل فيه بين غابة من الصنوبر ثم استقر أمام مقهى كبير تظلله الأشجار فقال: 
  أين نحن الآن؟

قالت وهي تهم بمغادرة السيارة: 
فوار أنطلياس.

تقدمته الى ركن قصي، وجلسا متقابلان على طاولة يجري بموازاتها جدول صغير تترقرق موجاته مع حركة النسيم الرقيق.

مالت الى الطاولة فظهر خليج صدرها الناصع يغور الى الظلام، وسألته عن اسمه وموطنه وظروفه فأجاب. فطلبت كأسين آخرين من "الجين"، وبنظرة منها آمرة رفع كأسه وشربه، ومتردداً سألها عن اسمها فأجابته: 
  "كارلا"

حاول أن يعرف المزيد عن شخصها فشردت ببصرها ورجته أن يؤجل ذلك لمرة قادمة.

كانت برغم جمالها الأخاذ وأنوثتها الفتاكة في الأربعين من عمرها أو يزيد بقليل. يهودية لبنانية الأصل اسمها الحقيقي "نورما عساف" هاجرت مع أبيها وأختها "ليز" الى أمريكا عام 1957 وهي في الثلاثين. فقد أعرضت عن الزواج بعد مقتل زوجها عام 1951 على يد الفلسطينيين، عندما ضبطوه يتجسس على مواقعهم بالقرب من "قلعة شقيف" كانت قد اقترنت به وعمرها تسع عشرة سنة عام 1947 بعد قصة حب مجنونة اشتهرت في "أهدن" ولما جاءها نبأ مقتله كانت حاملاً في شهرها الثاني، فسقطت مغشياً عليها، وسقط الجنين، وضاعت فرحتها منذ تلك اللحظة.

ولمدة طويلة انغلقت على نفسها وتعثرت دراسياً بالجامعة الأمريكية ببيروت، الى أن تماسكت شيئاً فشيئاً، فامتثلت للحقيقة وأكملت دراستها في الفلسفة وعلم الاجتماع، لكنها كانت في كل لحظة تضعف فيها عند هجوم الذكريات، تزداد يقيناً بأنها لم تنس الحبيب والزوج القتيل.

تكر السنوات وتطرحها موجات الحياة على الشواطئ فلا تنسى، وتظل حبيسة الماضي الذي يأبى أن يغادرها. واعتقد أبواها بأن الهجرة قد تنسيها معاناتها، وتمزجها بالمجتمع الجديد بعيداً عن لبنان، لكنهما كانا واهمان. فانتهما كانت مكبلة بماضيها بحبال من فولاذ وصورة زوجها ما تزال تتدلى على صدرها، أما خطاباته الغرامية فقد أودعتها علبة مزركشة برسوماته لا تغلق حتى تفتح. كانت هداياه أيضاً منثورة بكل أركان حجرتها، وملابسه تحتل مكان الصدارة في دولابها، حتى أحذيته. . فكثيراً ما كانت تتلمسها برفق وحنان وشوق مسعور. وضحكت ذات يوم وقد حدثتها أمها مترددة في أن تصحبها الى الطبيب النفساني، فقالت لها: 
  أتحسبينني جننت؟ كنت أحب زوجي ولا زلت، ولن أسمح لرجل قط أن يلمس جسدي من بعده.

كارلا استيفانو

في شارع MULTRIE عاشت نورما بمدينة "شارلستون" ، وافتتح أبوها مطعماً بالقرب من الميناء يقدم الأطعمة الشرقية للبحارة العابرين. وفي منتصف 1958 وفد الى المدينة زائر تبدلت مع مقدمه حياة نورما تماماً، إنه "روبي" ابن عم زوجها، الذي أنبأها بأنه هاجر الى إسرائيل، وقد جاء الى أمريكا ليتدرب في أحد المصانع، واندهش الشاب أمام تعلق نورما بحياتها في الماضي وعدم رغبتها في الخروج منها، وحاول معها كثيراً لكنه فشل.

وفي زيارته التالية لم يجيء وحده، بل كان بصحبته مراسل صحفي إسرائيلي، عرض عليها للخروج من أزمتها أن تسعى للانتقام من قتلة زوجها، وأن تطاردهم أينما كانوا.

جذبها حديثه وحرك فيها كوامن الثأر التي كم راودتها لكنها عجزت عن إيجاد الوسيلة لذلك. ولما سألته كيف تنتقم وتثأر (؟‍!!) أجابها بأن هناك وسائل شتى للانتقام وإراحة أعصابها، ووعدها بأن يجيئها بالشخص الذي يعاونها.

وبعد أيام قلائل، كانت تنصت باهتمام شديد لرجل لبق أنيق، استغل معاناتها جيداً وضغط بقوة على براكين آلامها ففجرها، إنه "أبراهام مردوخ" ضابط المخابرات الاسرائيلي..

لقاء واحد بينهما أشعل ابراهام بداخلها ثورة من جنون الغضب، والحقد الأسود والكراهية للفلسطينيين، ولم تنتظره ليعرض عليها العمل مع الموساد. . بل هي التي ضغطت فكيها توعداً وصرخت فيه: 
  سأحرق قلوبهم كما فعلوا بي، سأنسف أفراحهم وأحلامهم. . إنني أتشوق للانتقام والثأر، فألف كلب منهم لن برويني دماؤهم.

أجابها في هدوء: 
  سيدتي . . الغضب في عملنا قد يكلفنا حياتنا. نحن نعمل بلا أدنى اندفاع، فالحرص والذكاء هما مفتاح مهامنا وقوتنا، وأساس عملنا في جهاز المخابرات.

قالت: 
  إنني على استعداد تام للعمل معكم، لكن بشرط، ألا أتعرى لرجل، أو تضغطوا علي لأضاجع حيواناً عربياً، مهما كان مركزه، لأجلب منه أسراراً تريدونها.

ابتسم مردوخ ابتسامة باهتة لا تحمل معنى وعقب قائلاً: 
  ليكن في معلومك سيدتي أن الجنس أمر غير وارد في عملنا . . (!!) . . لكننا نلجأ اليه مع بعض العرب الذين يعيشون حالة شرسة من الجوع الجنسي، والبعض الآخر يكتفون بالمال فقط للتعاون معنا. وعلى كل، أعدك بألا نُعرضك لأولئك الجوعى، فعندنا فتيات مدربات جيداً للتعامل معهم.

انتهى اللقاء بينهما . . وكان عليها أن تنتظر بضعة ايام ليجيئها الأمر بالسفر الى تل أبيب. وقد حدث، وطارت تسعمائة كيلو متراً الى نيويورك حيث التقت بمردوخ، الذي شرح لها خطواتها القادمة، وأطلعها على ما يجب أن تفعله في روما.

في روما كان ينتظرها شخص ما تسلم منها وثيقتها اللبنانية وسلمها وثيقة أخرى باسم "كارلا ستيفانو"، وظل يتابعها من بعيد حتى وهي تصعد سلم الطائرة الاسرائيلية المتجهة الى مطار اللد.

كانت تشعر بسعادة غامرة وقد أدركت أن هناك تغيرات جديدة اقتحمت حياتها. بحفها إحساس بالنشوة وهي مقبلة على الانتقام لزوجها، وثمة تبدلات لذيذة اجتاحت مشاعرها عندما حلقت الطائرة الى دائرة كاملة فوق تل أبيب، قبل أن تهبط باللد على بعد سبعة عشر كيلو متراً، وهتفت: 
  ها هي إسرائيل أخيراً. . الوطن الجديد والحلم والمعاناة . . الوطن الذي قتل من أجله الحبيب . . .

ومن أجله أيضاً تسعى للثأر بقدميها. .

حية بين الأفاعي

أهلاً بك في إسرائيل مسز نورما.

صافحت اليد الممدودة في سعادة، وتأملت وجه الرجل البشوش اللطيف القسمات وهو يقول: 
نأمل أن تكون الرحلة طيبة .. من فضلك دعيني أحمل حقيبتك . .السيارة قريبة من هنا.

كان الاستقبال حافلاً وحاراً كطقس سبتمبر 1958، وأخبرها موافقها أنها ستقيم بفيلا رائعة على شاطئ البحر في "نتانيا" وأنها بعد الغد ستكون ضيفة شرف على مائدة أيسير هاربل (1) الرئيس الأعلى للمخابرات الإسرائيلية، في احتفال يقام بمناسبة مرور ستة أعوام على رئاسته للمخابرات.

انبهرت نورما بهاريل عندما قام لاستقبالها، منحنياً أمامها في احترام وهو يقبل يدها ويدعوها الى مائدته. . وسرت ببدنها رجفة زهو سيطرت عليها بصعوبة.

التفت بوجهه الوديع ناحيتها وقال لها: 
  لتغفري لي سيدتي أنني لم أكن في شرف استقبالك بالمطار. إنني لفخور جداً أن تنضم سيدة رائعة مثلك الى اسرتنا في الموساد.

ازدادت ارتباكاً لرقة حديثه وذوقه في انتقاء كلمات الإطراء، وتمتمت ببضع كلمات خجلى بدت غير واضحة، فأخرجها من خلجها عندما وقف قائلاً: 
اسمحي لي مسز نورما أن أقدمك الى كبار رجال الدولة في إسرائيل.
مشت الى جواره ثم تأخر عنها خطوة وهو يقدمها لأكبر ضيوفه: بن جوريون رئيس الوزراء الذي قبل يدها وهنأها على سلامة الوصول. ثم قدمها لجولدا مائير وزيرة الخارجية، ولبن زبون بنكوس وزير المواصلات، وشمعون بيريز وموشي ديان، ولشخصيات هامة أخرى منهم إسحاق يزير نيتسكي ، ويهو شافاط هاركابي ، ومائير ياري زعيم المابام، والجنرال آموز مانور ، والجنرال مائير ياميت ، وليلى كاستيل ، والياهو ساسون، وبنيامين بلومبيرج، وغيرهم من مؤسسي إسرائيل وكبار رجالاتها.

أحست نورما عساف بأهميتها رغم ضآلتها، وأسلمت قيادها لفريق من أكفأ رجال الموساد قاموا على تدريبها وتلقينها فنون التجسس، وطرق اصطياد الخونة وأساليب السيطرة عليهم.

أربعة اشهر كاملة في نتانيا أخضعت أثناءها لدورات مكثفة في التمويه والتخفي، واستعمال المسدس، واستخدام جهاز اللاسلكي في البث بشفرة معقدة، تستند الى حروف من كلمات رواية "الأرض" للأديبة العالمية "بيرل بكْ" وأطلعوها أيضاً على ملف كبير يحوي أعمال زوجها القتيل في خدمة إسرائيل.

هكذا شحذوا همتها وأشعورها بأهمية دورها في لبنان، وذلك للحد من العمليات الفدائية المتكررة التي تجيء عبر الحدود مع إسرائيل.

وفي 23 يناير 1959 غادرت نورما تل أبيب الى روما، وكان في استقبالها الشخص نفسه الذي قابلها عند مجيئها من نيويورك، فتسلمت منه وثيقة سفرها اللبنانية وطارت الى بيروت.
عشر سنوات في لبنان تطارد الفلسطينيين وتنقب عن ضعاف النفوس بين سكان الجنوب، تساعدها في مهامها فتيات ذوات حسن وجمال أخاذ، ينتشرن في كل أرجاء لبنان، منتدياتها، وكباريهاتها، وشواطئها، وفنادقها. البعض منهن يهوديات يعرفن حقيقة نورما عساف، والأخريات إما مارونيات أو أرمينيات يجهلن شخصيتها، ينقدن لرغباتها أمام سطوة المال وسحره، ويجتهدن في اصطياد الجنوبيين في بيروت، والفلسطينيين البائسين أيضاً.

عشر سنوات وشبكة نورما تبحث عن الخونة الذين يسهل إخضاعهم بالجنس والمال، فتطويهم طياً، وتزرعهم في جُبْ الخيانة لخدمة إسرائيل، وكان "أحمد ضاهر" أحد هؤلاء الذين تصيدتهم بمهارة، فماذا حدث بعد لقاء فوار أنطلياس؟ .

في ذكرى بيار . . ! !

بعد جلسة فوار أنطلياس انطلق أحمد ضاهر بنورما الى شقتها، ماراً بطريق المرفأ مخترقاً حي المزرعة حتى الأوزاعي على الكورنيش، وأمرته بالتوقف أمام إحدى البنايات العالية، وطلبت منه أن يزورها بشقتها في اليوم التالي، حيث تكون قد أجرت عدة اتصالات بشأنه مع بعض الملحنين.

هكذا أمضى ابن الجنوب ليلته يحلم بالمجد، وينتظر موعد اللقاء على أحر من الجمر، في ذات الوقت الذي كانت فيه نورما تضع خططها وتنصب شباكها لاصطياده. . إذ أدركت أنها أمام جنوبي قانط يبحث عن أمل.

وما أن حان موعد زيارته إلا وكانت في أبهى زينتها، ووقارها.

فتحت له الباب خادمة تضج بالأنوثة وقادته الى الصالون فانبهر بروعة الأثاث وفخامة الديكور، وتوقف عند لوحة كبيرة ذات إطار محاط بشريط أسود. كانت اللوحة لشاب يبدو في عنفوانه علقت حول رقبته عناقيد من الورد، وأبانت ابتسامته الواسعة المتألقة أثار جرح قديم ممتد لأسفل ذقنه.

  بيار ، زوجي.

انتفض أحمد ضاهر واقفاً وهو يقول: 
  الله يقدس روحه.

كانت ترتدي فستاناً طويلاً من الدانتيل الأسود، وثمة حزن بالغ يجسم على ملامحها برغم ابتسامتها، جلست قبالته في وقار أجبره على طرد ما فكر فيه بالأمس، لما غزته الرغبة أمام مفاتنها، واندهش وقد لاحظ أنه يجليس على حافة الكرسي في أدب جم.

أخبرته بأنها اتصلت بشأنه بالملحن المعروف "طنوس خوري"، ووعدها بأنه سيستمع الى صوته بعد عودته من أثينا بعد أسبوعين، وقالت أيضاً أنها اتصلت بالفنان "وديع الصافي" فوجدته يحيي حفلاته بأمريكا. وعندما دخلت الخادمة الفاتنة تدفع أمامها عربة الشاي، تعمد ألا ينظر اليها، واتجه ببصره الى الأرض، فقد كان ثوبها القصير ذي الحمالات مقور الصدر، يفضح نهدين متوثبين في انحناءتها الطويلة.

نفرت أعصابه فتصبب منه العرق، وأخذ يفرك أصابعه كطفل أغر، ولم يدر لماذا خطرت بباله زوجته رباب في تلك اللحظة بالذات، وأجرى مقارنة سريعة وسخر في نفسه لمجرد أن قارنها بالخادمة.

"رباب. . ؟ . . لا وجه للمقارنة ايها الأبله. . بقرة ضامرة الضرع والجسد وغزال بديع المحيا يتراقص رقصاً في مشيه . . " . . وأخذ يشدو:

إن أعصابي انتهت . . 
لا شيء باق.
فاعشقيني أبد الساعات رقصاً.
واغمسي أظفارك البيضاء في عمري.
ففيه تقرع الأجراس.
تحتد الطبول.
آه كم أصبحت مجنوناً،
وكم أحتاج أن أبكي على صدر دفئ؟
يأويني . . أنا الطفل الخجول.
فصحرائي انشقت.
وماضي احتضار موحش.
فقر بخيل.

هتفت نورما في إعجاب: 
صوتك شو كتير حلو .. ليش بدك تبكي على صدر دافئ؟ افتكرت رباب ها الغبية؟

  هون ما في فرح "مشيراً الى صدره".

  إنشا الله حياتك جميلة.

  عيونك بتنطق مرار.

امتقع لونها وارتعشت خلجاتها، وتنهدت في أسى: 
  اليوم مات بيار من تمنتاش سنة . . هالذكرى ما بتموت، كان بحب لبنان وترابه، وبحب كل العرب، اتعصر حالو كتير واتبدل . . وصار يكره اليهود ويشرد وانا وياه. كنا عم نتمشى بالكورنيش طلت دموعه . . سألته شو صار .. ؟ حرقتني زفراته وبحرقة لكز الأرض وقال: هناك بفلسطين المدابح . . هناك فيه تقتيل ومعتقلات ومشردين، وكل العالم طق حنك ما في .. وهون، فيه رقص وطرب وسكرانين يدوروا عالبارات. الله يبيد اللي ما يدافع عالعروبة.

"أجهشت بالبكاء". . :
مرت ليام وما عاد إلو أثر، فارقنا بيار عالجنوب واندار يضرب مع الفلسطينيين في اليهود، ولما صار يمرق عالحدود، فجّره لغم مزروع، وما عثر حدا على رجوله "رجليه"، ومات منزوف.

كان جسدها يهتز في انفعال وتأثر وهي تصف مشهد قتل زوجها، وكيف حملوه اليها بدون أطرافه السفلية.

لقد أجادت دورها ببراعة لا تملكها إلا ممثلة محترفة، واستطاعت أن تستحوذ على تعاطف ضاهر وإشفاقه، وبلهجة وطنية طلبت منه أن يساعدها لتنتقم من الإسرائيليين ولما أبدى عدم فهمه لطلبها قالت إنها تجد لذة كبرى وتشعر بسعادة غامرة كلما قرأت أو سمعت عن عمليات الفدائيين عبر الحدود، ولكن تتشوق لمساندتهم والوقوف الى جوارهم رغبة في الانتقام، وتعاطفاً مع قضيتهم، وأبدت استعدادها لإمدادهم بالمال ليتواصل جهادهم، ثم أظهرت إعجابها الشديد ببطولاتهم وسالت ضاهر فيما يشبه الانبهار:

  كيف يعيش هؤلاء الأبطال؟ 
  كيف يتحركون؟ 
  كيف يتدربون؟ 
  كيف يتجمعون؟ 
  ما الطرق التي يسلكونها لعبور الحدود؟ 
  ما الأسلحة التي تنقصهم؟ 
  و . . . .. . . الخ.

الصدمة

ألهبت حماستها مشاعره فكلمها عما يعرفه، وفشل في الإجابة عن بقية تساؤلاتها لأنه – كما قال – عاش منكمشاً في بقالته، لا يحفل بما حوله من تطورات تتصل بالفلسطينيين منذ ترك الجيش اللبناني.

عند ذلك أنهت الحديث عن الجنوب، وطافت به في رحلة رائعة حول عالم الفن وأحلام الشهرة، ثم نقدته عائتي ليرة ليقتني ملابس جديدة تليق بمقابلة الفنانين الكبار.

وفي زيارته الثالثة لشقتها، استقبلته خادمتها جورجيت بملابس تظهر أكثر مما تخفي. فمشى وراءها الى الصالون مشدوهاً بترجرج مفاتنها، وثار بداخله وحش الرغبة يعوي عطشاً. وأنبأته بأن سيدتها في زيارة لمخيات اللاجئين في "صور" وهي على وشك العودة. فلما جاءتهه بكأس من العصير البارد اعتقد أنه سيخفف لسع النار بداخله، لكن هيهات أن تخمد رعشة الوطر بكأس بارد.

دق جرس التليفون فنادته، كان صوتها من بعيد يأتي آمراً: 
  أنا هون بصورْ .. بتنتظرني.

أحس بلذة تسري بأوصاله، فما بين صور وبيروت يربو على الثمانين كيلو متراً، مسافة تقطعها السياة في ساعة ونصف الساعة على الأقل. إنه بلا شك وقت ضئيل سيمر سريعاً على ملهوف مثله، يجمعه مكان مغلق بأنثى بركانية المفاتن تتبختر جيئة وذهاباً فيلعق الشفاه الظمأى، وتتصاعد من رأسه أبخرة الجحيم المتلظي.

حاول كثيراً أن يتماسك أمامها، أو يتظاهر بالثبات والهدوء، لكن شيطان الرغبة كان يعض في أعصابه وينهش مقاومته بلا رحمة، فيستسلم ابن الجنوب لابنة الموساد المدربة الماهرة، وقد تحول بين أحضانها اللافحة الى طفل مشاغب أغر، استلذ طعم النشوة ببحرها لا يريد شطاً ولا نجاة.

لم يجل بناظريه بعيداً عنها، أو يلحظ الكاميرات الدقيقة وأجهزة تلقط الأصوات المبثوثة بالحجرة، تسجل قمة لحظات ضعفه، وشذوذه. فظمآن مثله لا يستطيع عقله المغيب ترجمة المعالم حوله، ذلك أن إعصار الرغبة أعماه، وأغرقه في جاهلية المدارك وأغوار اللاشعور.

كانت نورما قد تغلغلت داخل البيئات الإجتماعية الفلسطينية في لبنان، بادعائها التعاطف مع قضيتهم، ودأبت منذ سنوات عملها لصالح الموساد، على زيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينية للوقوف على مشاكل سكانها، والإنفاق بسخاء على المرضى والأطفال الأيتام، فحظيت بذلك على حب سكان مخيمات الجنوب لما لمسوه منها من ود وتعاطف.

هكذا كان الأمر في الظاهر. وما لم يعلمه أحد أنها كانت تعد تقارير وافية، تبعث بها الى الموساد أولاً بأول، عن أحوالهم وتوجهاتهم ومعنوياتهم، مستعينة بشبكة هائلة من العلاقات مع رموز الفلسطينيين واللبنانيين، تمكنت من خلالهم من الحصول على أسرار دقيقة أفادت مخابرات إسرائيل كثيراً.

هذا ماحدث أيضاً بعد ذلك في السبعينيات، عندما أرسلت الموساد الجاسوسة الأردنية "أمينة داود المفتي" لجلب معلومات عن القادة الفلسطينيين، واستطاعت بسهولة أن تخترق أسرارهم لثقتهم بها كطبيبة عربية. كانت أمينة مدفوعة أيضاً بحب الانتقام من العرب، الذين أسقطوا طائرة زوجها الحربية فوق الجولان واختفت أخباره. واستغلت الموساد محنتها بمهارة الى أن تم كشفها، وتركت لسنوات تواجه السجن والتعذيب المعنوي في أحد الكهوف بجنوب لبنان.

وهناك أخريات كثيرات بعثن الى لبنان للامتزاج بالنسيج الاجتماعي الفلسطيني، بعضهن سقطن وبعضهن هربن. إلا أن نورما عساف كانت هي الأولى – حسب المعلومات المتوفرة – التي سبقت في هذا المجال، فنجحت في مهمتها خير نجاح بفضل ذكائها ومواهبها ودافعها للثأر.

ولما عادت الى بيروت بعد رحلة صور، ابتسمت مرحبة بأحمد ضاهر، وسألته هل قامت جورجيت بالواجب تجاهه.. ؟ فكانت نظرة الرضا على وجهه تفضح جرعة "الواجب" التي حظي بها.

كانت ترتدي ملابس أنيقة محتشمة انتقتها بعناية، وغلفت رنة حزن صوتها وهي تقول له: "إن أعصابها لم تعد تحتمل ما تراه في الجنوب". وانتبه لحديثها وهي تفيض في وصف المخيمات، وحالة البؤس التي عليها سكانها، ولما تطرقت في الحديث عن الأطفال اليتامى، سرحت ببصرها الى ما وراء الجدران. . وترقرقت دموعها. . ثم طفرت بلا وعي منها . فاختنق صوتها المتهدج وانتابتها نوبة من نحيب مرير. فقد هجمت غصباً عنها ذكرى موت طفلها الجنين .. وتذكرت أمومتها المحرومة ولوعتها شوقاً لطفل تلده، تذكرت أيضاً عمرها الزاحف للخريف وقد تساقطت منه السنون، وينهش جمالها الزمان لولا المساحيق التي تلطخ بشرة هاجمتها تجاعيد الحزن والغضب.

أذكى شجنها لهيب الحسرة داخلها. فاستسلمت لقبضة الضعف تطبق على ثباتها فتسحقها سحقاً، لكن ، أي صنف من النساء تلك المرأة؟ . . لقد توقفت فجأة عن النحيب، وتبدلت نظراتها الرقيقة الحانية الى أخرى عنيدة. . شرسة، ماكرة، فجففت دموعها ونطقت بقرارها:

  الحين برتب تذكرتين لأتينا، بدي أملص من هالكرب يومين باليونان، صار لازم ترافقني.

بدون إرادة، وجد نفسها الى جوارها بالطائرة ظهر اليوم التالي . . وكانت خطة تجنيده في اليونان قد تم وضع آخر فصولها. . مثل عشرات من اللبنانيين قبله رافقوها طواعية الى "مصيدة العسل" طوال رحلتها المثيرة في عالم الجاسوسية.

كانت خطة السيطرة والتجنيد تعتمد على أسلوب "الصدمة" الصدمة القوية الفجائية STROKE OF LIGHTNING التي تشل وعي الضحية، وتفقده السيطرة على توازنه العقلي فيستسلم.

هذا الأسلوب ناجح جداً، وقد أجادته المخابرات السوفييتية بمهارة عندما كانت قوية، وترفضه – أحياناً – أجهزة المخابرات الأخرى معتمدة على نظريات خاصة بها. . إلا أن الموساد خاضت كل الأساليب والنظريات المختلفة، وطورتها. وكانت نورما قد برعت الى حد الاحتراف في أسلوب التجنيد بالصدمة، وهو أعلى درجات التمكن المهني التي تتطلب ذكاء خارقاً يفوق الوصف.

مصيدة أوسيانوس

حلقت الطائرة فوق الأكروبول ACROPOLIS في دائرة كاملة، ليتمكن المسافرون من تصوير القلعة من كل الزوايا، وفي ساحة المطار الخارجية كانت تنتظر سيارة ليموزين فخمة بداخلها جلست "أرليت" . . ملكة الإذابة .. رفيقة نورما ومحطة الخداع الأخيرة، التي ليس لها حل في جمالها.

صافحت أرليت ضيفها ونظراتها تخترقه، فألهبته، وأذابت عقله في لحظات معدودة، وفي بهو فندق "سالونيكا" ظهر "غسان" مهندس الإعداد والتنسيق. . فتعارفوا جميعاً على أنهم أصدقاء نورما.

وفي أثينا القديمة – البلاكا – تناولوا العشاء في أحد المطاعم، حيث تتصاعد الأنغام الصاخبة، ويتألق الرقص الفولكلوري مجتذباً السياح الذين انسجموا مع هذا الجو المرح، فشاركوا في الرقص الشعبي على أنغام "البوزوكيا".

وبينما تصدح الموسيقى وتتعالى الضحكات، أومأت أرليت الى ضاهر فقاما الى الرقص، قاذفاً بشرقيته وبخجله وطفق يرقص في نهم بلا كلل. ويمضي الوقت بهما سريعاً فيطل الفجر . . ويترنح ضاهر حتى يصل الى سريره، لينام بعد ذلك نوماً ثقيلاً، استعداداً لرحلة "أوسيانوس".

كانت أوسيانوس باخرة ركاب عملاقة، تحتوي على 235 حجرة مكيفة، وحمام سباحة، وساحة للاسترخاء، وصالونات فخمة وبارات ومطعمين.

اجتمع الاصدقاء الأربعة على ظهر الباخرة، كانت نورما لا تفارق مجلس غسان، بينما انفرد ضاهر بأرليت كما تمنى. وبعد العشاء على أنغام الموسيقى الحالمة.. اختفيا عن الأنظار فوق السطح حيث أضواء النجوم وآهات العشاق وطرقعات القبل. حثدها كثيراً عن نفسه فأفردت له مساحة كبيرة من الألفة قربتهما، ونام يحلم حتى الصباح الباكر بأفروديت التي أيقظته بنقرات رقيقة من أصابعها على بابه:

  هادي رحلة يا كسلان، نحنا عالسطح منشان بنشوف "الميكونوس" الجميلة. .

فرت من أمامه تجري ضاحكة، وعلى عجل ارتدى ملابسه وأدركها. . بعد قليل أطلت جزيرة ميكونوس MYKONOS بشوارعها الضيقة البراقة، وبيوتها الكلسية البيضاء، مساحة هذه الجزيرة تبلغ حوالي 40 كيلو متراً مربعاً. جمالها الأخاذ حمل عدداً من الأدباء والفنانين على اقتناء بيوت لهم فيها .

وعند انتصاف النهار، ارتدت أرليت البكيني، وحملق ضاهر يتحسس بعينيه جسدها لا يصدق بأن أفروديت بعثت من جديد. فانبجس منه العرق وقد ثارت رغبته، وقذف بنفسه خلفها "في البيسين" لعله يطفئ لهيب جسده لكن الماء أزاده ناراً ولفحاً.

وفي اليوم التالي وصلت الباخرة الى كريت، فزاروا قصر "كنوسوس" الذي كان مؤلفاً من 1200 غرفة، ثم متحف هيراكليون، وبعد الظهر أبحرت الباخرة عائدة الى أثينا.

صعدت أرليت بالبكيني الى السطح، وبينما بركان رغباته يصطخب، كانت الباخرة تمر بالقرب من جزيرة "سانتورين" المشهورة بالبركان الذي يحمل اسمها. إنها مصادفة عجيبة أن يتقابل بركانان.. أحدهما خامد والآخر يفور وينشط..

كانت أرليت طوال الرحلة تذيب الجمود بينهما تمهيداً للمعركة القادمة . . لذلك . . لم تتركه يلمس جسدها أو يحاول، فقط أشعلته وجعلته يرغب ويتمنى، وينتظر ويتحرق.. فانكبت تقرأ ما بأعماقه في نظراته الجائعة، وكان هذا الجوع الذي وصل مداه الى قمم الخور فألاً حسناً لما قبل "الصدمة" . . !!

بالقرب من شارع بيلوبونيزوس PELOPONNESUS في أثينا، يوجد سوق تجاري قديم يموج بالحركة والحياة. بإحدى بناياته المرتفعة نزل ضاهر بالطابق التاسع، كانت الشقة مؤلفة منحجرة نوم واحدة وصالون، شقة صغيرة تكفي لشخص واحد أو لشخصين، تركت معه نورما بضع دراخمات وسافرت الى "كاستوريا" في أقصى الشمال "لزيارة خالتها"، ووجد اللبناني نفسه وحيداً لعدة أيام دون اتصال منها أو من أرليت. . الى أن نفدت دراخماته وسيطر عليه الخوف والقلق. فهو غريب في بلد غريب لا يعرف لغتها، ولا يملك مالاً يتعيش منه، أو تذكرة سفر تعيده الى وطنه.

وبينما هو في سجن مخاوفه وتوتره وجوعه، كان غسان في الشقة المجاورة ومعه اثنان آخران، من خلال شاشة صغيرة أمامهم كانوا يلاحظون كل شيء في شقته.

وفي التوقيت المختار والمحدد بدقة، اتصلت به أرليت، وذهبت اليه تحمل أكياس الطعام والعصائر، فملأ معدته الخاوية وخرج معها الى شوارع أثينا وحدائقها البديعة، يملؤه الزهو وعيون المارة تحسده على فتاته الحسناء الفاتنة . . وتمنى وقتها لو أنه بقي الى جوارها لا يفارقها أبداً. . ولأنه يعرف قدر نفسه، ويخاف أن تصدمه، سألها عن فرصة عمل فوعدته أن تتكم مع والدها حيث يمتلك شركة خدمات بحرية كبرى بأثينا.

وبعد سهرة رائعة بأحد البارات صحبته الى "مصيدة العسل" حيث بدت ثملة عن أخرها ازدادت التصاقاً به خشية السقوط وهو يقودها الى غرفة النوم، تفوح من جسدها البض رائحة أريجية، ترسل دفقاً متواصلاً من الرغبة الى عقله، ولما تحررت من بعض ملابسها ثار بركانه . . وانجرف الى فوهة عميقة يطير تلذذاً . . واندهاشاً. .

و .. بينما هما عاريان في الفراش . . تتصاعد نشوته شيئاً فشيئاً، فوجئ بنورما فوق رأسه، ومعها غسان ورفاقه.

انهمدت نشوته على حين فجأة، وارتجت فيه الأرض، فقد كانت نظراتها شعاعات من التوحش، وبصوتها حشرجة الهلاك.

قالت له في الحال مشيرة الى أرليت التي انسحبت عارية من الحجرة: 
  هايدي إسرائيلية . . من الموساد، كليتنا من الموساد، وبنريدك تعمل ويانا. .

  . . مو .. موساد؟

  شو صار رأيك؟

"قذفت اليه بصوره العارية مع جورجيت ولوحت له بعدة شرائط مسجلة". 
  موساد .. ؟

  وقعْ عالوثيقة نحنا ما بنمزح. "أخرجت من جيبها ورقة مطوية وقلماً".

  وثيقة؟ (كان كلما جذب الملاءة ليستر نفسه بها شدها أحدهم فبقى عرياناً).

صارخة في شراسة: 
  ما بدنا تعطيل شوها لفرك؟ وقع .

إن الشخصية الخائرة ASTHENIC في نظريات علم المخابرات . تطلق على الشخص الذي أفقدته الصدمة قدرة التفكير .. ففي ظل الكارثة التي حلت به يصاب العقل بالذهول وتغيم في الشعور STUPOR مع غياب الحس وبلادة الإدراك SLUGGISH والانتقال من أحد جوانب الموقف الى جانب آخر. . وهو ما يطلق عليه في علم النفس مصطلح "الاتجاه المجرد" ABSTRACT ATTITUDE .

ومن خلال بطء العملية العقلية.. وعدم القدرة على التصرف، مع ظهور أمارات اضطرابات آلية، يسهل السيطرة على الشخص الخائر، والتحكم في إرادته المشلولة بنسبة فائقة النجاح. وقد كان هذا بالضبط هو حال ضاهر الذي فاجأته "الصدمة" فعجز عن مجابهتها. واستسلم لمصيره خائراً .. منهاراً.

ودون أن يدري ماذا حدث . . كأنه الحلم، وقّع أوراقاً لا يدري بالضبط ماذا كتب بها، وخرجت نورما تعلو وجهها ابتسامة الظفر، وعادت أرليت اليه من جديد، ولم تكن ثملة كما كانت تدعي، بل كانت تحمل كوباً من العرق اللبناني وطبقاً من "المازاوات".

كان على أرليت أن تبقى في جواره، خلال تلك اللحظات بالذات، حتى يفيق من ارتجاجة الصدمة. مستغلة هذه المرة أقصى ما عندها من نعومة وحنان ورقة، ولأنها مارست مهاماً عديدة سابقة كتلك، فالأمر بالنسبة لها أصبح مألوفاً. . وطبيعياً. فقد كانت تمتلك خبرات عالية اكتسبتها في فن معاملة "المصدومين" لتليينهم . . وتمهيد الطريق للخطوات اللاحقة. إنها بحق خطوات شيطانية بدأت في فوار انطلياس، ثم بشقة نورما مع جورجيت، وأخيراً مع أرليت ذات المهمتين، التسخين . . والتليين.

ذلك إنه عالم المخابرات والجاسوسية الذي وصفه الكاتب المعروف "هانسون بولدوين" قائلاً:

"إن نظام المخابرات الصحيح عبارة عن منشأة ذات إمكانات هائلة لكل من الخير والشر، ويجب أن تستخدم الرجال والنساء كل الوسائل. . فهي رقيقة، وشرسة، تتعامل مع الأبطال، والخونة . . وهي ترشي، وتفسد، وتختطف، وأحياناً. . تقتل . . إنها تقبض على قوة الحياة والموت .. وتستغل أسمى وأدنى العواطف، وتستخدم في الوقت نفسه الوطنية حتى أعظم معانيها. . والنزوات في أحط مداركها. . !!".

بهذا وقع أحمد ضاهر في الشرك دون أدنى مقاومة .. فقد مورست معه نظريات علم النفس والسيطرة حتى أذعن للأمر. . واستسلم لفريق التدريب صاغراً ليتمكن من تعليمه.. وتخريجه جاسوساً للموساد .. كيف بدأت رحلته في عالم التجسس على الفلسطينيين؟ وكيف جند خونة آخرين لصالح الموساد؟

العائد الجديد

تعهد به على الفور رجال الموساد في أثينا. . وأخضعوه لدورات تدريبية في فنون التجسس وكيفية الامتزاج بالفلسطينيين، ولأنه – كطبيعة البشر – ربما قد يتمرد على واقعه بعدما يفيق من أثر الصدمة، أفهموه باستحالة الإفلات منهم .. وهددوه بأنه عملاءهم في لبنان لا حصر لهم .. ولديهم القدرة على إلحاق الأذى بمن يتمرد أو يرفض الاستمرار معهم .. وقد يصل الأمر الى حد قتله أو قتل أولاده. .

هكذا ألقوا الرعب بقلبه، ووعدوه بالثراء الفاحش إذا ما أخلص لهم. . وأكدوا له مقدرتهم الكاملة على حمايته وعدم التخلي عنه في أية حال، وصيّروه "كالعجينة" في أيديهم يشكلونها كيفما شاؤوا، فتجمد الدم بأوردته وتوحش بداخله الخوف ينهش أعصابه. . وكان كلما هدأ قليلاً ارتعشت أطرافه وخلجاته وغرق في محيط من هموم.

ولما أطلقوا عليه أرليت لتهدئته كانت رغبته قد تكسرت، وانعقدت إحساساته كرجل أمام أنوثتها المتوقدة، فلم يعد يثيره ذلك الجسد الأفروديتي الذي حلم باحتوائه، ودفئه . . ومذاقاته.

بعد ثلاثة أسابيع في أثينا حمل معاناته الثقيلة عائداً الى بيروت، وأسرع الى منزله في "عيترون" الحدودية يحفه الشوق لأسرته والخوف أيضاً، وكم كانت دهشته عندما اكتشف أن زوجته رباب لها مذاق جميل مسكر، مذاق بطعم آخر يحن اليه ويختلف كثيراً عن مذاق جورجيت وأرليت.
قرأت رباب في عينيه تبدله . . وأحست بأن العائد ليس هو الزوج القديم، إنما شخص آخر يفيض حباً، وحناناً، وحزناً، وحاول بدوره أن يبدو طبيعياً لكن الحمل الثقيل الذي ينوء به يفصح عن أرقه وكوابيس خوفه ويفضح أسايره، وفشلت رباب في أن تجعله يبوح بما يؤرقه، بحنانها، عند هدأة نفسه بين أحضانها، وانهارت مح<